تَفْسِيرُ
سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الْمُسلِمُون:
اتَّقُوا اللهَ تَعالَى، وَحاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ مُحاسَبةً تَدُلُّ عَلَى
يَقِينِكُمْ بِلِقاءِ اللهِ والوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإيَّاكُمْ والغَفْلَةَ
عَنْ ذلك، فَإِنَّ الأمْرَ عَظِيمٌ. قال تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ ( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا
* وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا *
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ
يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَهُ * ).
حَيْثُ
يُخْبِرُ اللهُ تَعالَى عَمَّا يَكُونُ يَوْمَ القِيامَةِ، وَأَنَّ الأرضَ
تَتَزَلْزَلُ وَتَرْجُفُ وَتَرْتَجُّ وَتَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِها، حَتَّى
يَسْقُطَ ما عَلَيْها مِنْ بِناءٍ وَعَلَمٍ. فَتَنْدَكُّ جِبالُها، وَتُسَوَّى
تِلَالُها، وَتَكُونُ قاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيها عِوَجًا وَلَا أمْتًا.
( وَأَخْرَجَتِ
الأرْضُ أَثْقَالَهَا ) أَيْ: مَا فِي بَطْنِها، مِنْ الأَمْواتِ
والكُنُوزِ، كَمَا فِي الآيةِ الأُخْرَى: ( وَأَلْقَتْ
مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ).
( وَقَالَ
الإنْسَانُ مَا لَهَا ) أَيْ: اسْتَنْكَرَ أَمْرَها بَعْدَ مَا كانَتْ
قارَّةً ساكِنَةً ثابِتَةً، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى ظَهْرِها، فَتَقَلَّبَتْ
الحالُ، حَتَّى صارَتْ مُتَحَرِّكَةً مُضْطَرِبَةً، قَدْ جاءَها مِن أَمْرِ اللهِ
مَا أَعَدَّ لَهَا مِنْ الزِّلْزالِ الذي لَا مَحِيدَ لَهَا عَنْه، ثُمَّ أَلْقَتْ
ما فِي بَطْنِها مِنْ الأمْواتِ، الأَوَّلِينَ والآخِرِين، مُنْذُ خُلِقَ آدَمُ
حَتَّى ساعَةَ الزَّلْزَلَةِ. فَيَسْتَنْكِرُ الناسُ أَمْرَهَا وَتُبَدَّلُ
الأَرْضُ غَيْرَ الأرْضِ والسَّماواتُ، وَيَبْرُزُونَ للهِ الواحِدِ القَهَّارِ.
( يَوْمَئِذٍ
تُحَدِّثُ ) الأرْضُ ( أَخْبَارَهَا )
أَيْ: تَشْهَدُ عَلَى العامِلِينَ بِمَا عَمِلُوا عَلَى ظَهْرِها مِنْ خَيْرٍ
وَشَرٍّ، فَإِنَّ الأرْضَ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهُودِ الذينَ يَشْهَدُونَ عَلَى
العِبادِ بأعْمالِهِم، ذَلِكَ ( بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحَى لَهَا ) أيْ: أَذِنَ لَهَا أَنْ تُخْرِجَ ما فِي بَطْنِها،
وَأَمَرَها أَنْ تُخْبِرَ بِمَا عُمِلَ عَلَيْها، وَلَا تَعْصِى أَمْرَه فِي
ذَلِك.
( يَوْمَئِذٍ
يَصْدُرُ النَّاسُ ) مِنْ مَوْقِفِ القِيامَةِ، حِينَ يَقْضِي اللهُ
بَيْنَهُم ( أَشْتَاتًا ) أَيْ: أَنْواعًا
وَأَصْنافًا، مَا بَيْنَ سَعِيدٍ، مَأْمُورٍ بِهِ إِلَى الجَنَّةِ، وَشَقِيٍّ
مَأْمُورٍ بِهِ إلى النارِ. يَصْدُرُونَ فِرَقًا مُتَفاوِتِينَ، كُلٌّ مَشْغُولٌ
بِنَفْسِهِ وَعَمَلِهِ، لَا يَلْتَفِتُ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ، وَلَا
لِأَوْلادِهِ وَفَلَذَةِ كَبِدِهِ الذينَ أَتْعَبَ نَفْسَه فِي الدُّنْيا مِنْ
أَجْلِهِم، وَحَرَمَ نَفْسَهُ الخَيْرَ الكَثِيرَ كَيْ يُوَفِّرَهُ لَهُمْ، وَلَا
لِأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَلَا لِإِخْوَتِهِ وَأَخِلَّائِهِ. وَهَكَذَا الأُمُّ
الحَنُونُ الرَّحِيمَةُ، تَفِرُّ مِنْ وَلَدِها الذي كانَتْ فِي الدنيا تَفْدِيهِ
بِحَياتِها. كُلٌّ مَشْغُولٌ بِنَفْسِهِ. يَصْدُرُونَ ( لِيُرَوْا
أَعْمَالَهُمْ ) كُلَّها، دِقَّها وَجُلَّهَا، وَأَوَّلَها وَآخِرَها،
حَسَنَها وَسَيِّئَها، ويُرَوْا جَزاءَهُمْ عَلَيْها.
عِنْدَ ذلك: ( فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ ) وهذا شَامِلٌ عَامٌّ لِلْخَيْرِ والشَّرِّ كُلِّهِ،
لِأَنَّه إذا رَأَى مِثْقالَ الذَّرَّةِ، التي هِيَ أَحْقَرُ الأشياءِ، وَجُوزِيَ
عَلَيْها، فَمَا فَوْقَ ذلك مِنْ بابِ أَوْلَى، وَهَذِهِ الآيَةُ فِيها غَايَةُ
التَّرْغِيبِ فِي فِعْلِ الخَيْرِ وَلَوْ قَلِيلًا، وَالتَّرْهِيبِ مِنْ فِعْلِ
الشَّرِّ وَلَوْ حَقِيرًا.
وَلِعِظَمِ شَأْنِها سَمَّاها النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم بالآيةِ (
الفَاذَّةِ الجَامِعَةِ ). يَقُولُ النبيُّ
صلى اللهُ عليه وَسلم: ( لَا تَحْقِرَنَّ مِن
المَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أخاكَ بِوَجْهِ طَلِقٍ ). وقالَ
رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( إِيَّاكُمْ
وَمُحَقَّراتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الْمَرْءِ حَتَّى
يُهْلِكْنَه )، وقال أَيْضًا: ( إِنَّ
العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيها يَزِلُّ بِها فِي
النارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ ).
فاتقوا الله عبادَ اللهِ وَتَدَبَّرُوا
كَلامَ اللهِ، وَلا تَغْفَلُوا عَنْ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَه.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً
كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ اللهِ:
وَمِمَّا وَرَدَ فِي الخَيْرِ والشَّرِّ، مَا أَخْبَرَ بِهِ النبيُّ صلى اللهُ
عليه وسلم عَنْ امْرَأَةٍ دَخَلَتْ النارَ بِسَبَبِ هِرَّةٍ، ( حَبَسَتْهَا، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا تَرَكَتْهَا
تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرضِ ). فَأَيْنَ مَنْ يَظْلِمُ عبادَ اللهِ الْمؤمنينَ،
وَهُوَ يَسْمَعُ مِثْلَ هذا الحديثَ، فِي هذا الحَيَوَانِ؟!.
وَفِي الْمُقابِلِ:
أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ عَن: بَغِيٍّ سَقَتْ كَلْبًا كانَ يَأْكُلُ
الثَّرَى وَكادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ فَغَفَرَ اللهُ لَهَا. وَأَخْبَرَ النبيُّ
صلى اللهُ عليه وسلم عَنْ ( رَجُلٍ يَمْشِي بِطَرِيقٍ
فَوَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ فَأَزَاحَهُ فَشَكَرَ اللهُ لَه فَغَفَرَ لَه ).
فَأَيْن مَنْ يُؤْذُونَ الناسَ فِي طُرُقِهِمْ وَطُرُقاتِهِمْ، أَوْ مَا يُلْقُونَ
مِنْ الأَذَى والْمُخَلَّفاتِ في طُرُقِهِمْ ومُتَنَزَّهاتِهِمْ.
وَيَجِبُ عَلَيْنا يا عِبادَ اللهِ: أَنْ
نَعْلَمَ بِأَنَّ هذه الأَعْمالَ اليَسِيرَةَ التي قَبِلَها اللهُ مِن أصْحابِها،
إِنَّمَا قَبِلَها لِأَنَّهُمْ مِن أَهْلِ الإيمانِ والتَّوْحِيدِ، وأَمَّا
الكُفَّارُ والْمُشْرِكُونَ، فَلَوْ أَنْفَقُوا مِلْءَ الأَرْضِ ذَهَبًا، ما
تُقُبِّلَ مِنْهُمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ.
اللَّهُمَّ
وَفِّقْنا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا فِي أَعْمالِنَا وأَقْوالِنَا وَجَنِّبْنَا مَا
يُسْخِطُكَ عَلَيْنَا، اللهُمَّ أصلحْ قلوبنَا وأعمالَنا وأحوالَنا، اللهُمَّ
أصلحْ أحوالَ المسلمين، اللهُمَّ اجمعْ كلمةَ المسلمينَ على كتابِك وسُنَّةِ
نبيِّك محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، اللهم اجعلْ كلمتَهم واحدةً ورايتَهم
واحدةً واجعلْهم يداً واحدةً وقوَّةً واحدةً على مَن سواهم، ولا تجعلْ لأعدائهم
مِنَّةً عليهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهم عليكَ بالكفرةِ والْمُلحِدين الذين
يصدُّون عن دينِك ويقاتلون عبادَك المؤمنين ، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجزونك،
اللهم زَلْزِل الأرضَ من تحت أقدامِهم، اللهم سلِّطْ عليهم منْ يسومُهم سوءَ
العذابِ يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا من كيدِ الكائدين وعدوانِ
المعتدين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مما يكيدُ لها، وانصرها على أعدائِها في
داخِلِها وخارجِها، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّدْهم بتأييدِك،
واجعلهم من أنصارِ دينِك، وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ذا الجلالِ
والإكرامِ، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمين والْمُسلماتِ والُمُؤمنينَ والُمُؤمناتِ
الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ، اللهُمَّ صلِّ وسَلِّمْ
على نبيِّنا محمَّدٍ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|