تفسير سورة التين
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقوا اللهَ تعالى, وتَذَكَّرُوا الأَمْرَ الذي خَلَقَكُمُ اللهُ مِنْ أَجْلِه, واعْلَمُوا أَنَّ السعادَةَ لا تَكونُ إلا بالإيمانِ والعَمَلِ الصالِح, وأَنَّ بَنِي آدَمَ في نَقْصٍ وخَسارَةٍ وسُفُول, ما لَمْ يَلْبَسُوا لِباسَ التقوى, ويُزَكُّونَ أنفُسَهُم بالإيمانِ والعملِ الصالِح. قال تعالى: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ).
فأَقْسَمَ اللهُ في الآياتِ الثلاثِ الأولى, بالتِّينِ والزَيتُونِ, وهما مِنَ الثِمارِ المَعْروفةِ, حَيْثُ يَنْبُتانِ في فِلَسْطين. ثُمَّ أَقْسَمَ بِجَبَلِ الطُّورِ المُبارَك, الذي كَلَّمَ اللهُ عليهِ موسى عليهِ السلام. ثُمَّ أقسَمَ بالبلدِ الأمينِ, وهو مكَّة. فالآيةُ الأولى, في بَلَدِ عيسى عليه السلام, والثانيةُ في الجَبَلِ والبُقْعَةِ المُباركَةِ التي كَلَّمَ اللهُ عليها موسى عليه السلام, وأنْزَلَ عليهِ التوراةَ. والثالثةُ في مكةَ البَلَدِ الأمينِ والآمِنِ مِنْ كُلِّ خَوف, ومَهْبِطِ الإسلام, ومَبْعَثِ خاتَمِ الأنبياءِ وأفضَلِهِم, وسَيِّدِ ولدِ آدمَ, مُحَمدٍ صلى الله عليه وسلم.
والمُقْسَمُ عليهِ قَوْلُهُ: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ), أي, فَطَرْناهُ على الإسلامِ, فإنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطْرَة. وجَعَلْنا لَهُ عقْلاً يُمَيِّزُ بِه, وكَذلكَ جَعَلْناه في أحسنِ صُورَةٍ وهيئَةٍ, فلا يوجُدُ شيٌ مِنَ المَخلُوقاتِ أَفْضَلَ وأحسَنَ مِنَ الإنسان. ولِذلِكَ أَمَرَ اللهُ بالتَفَكُّرِ في خِلْقَةِ الإنسانِ فقال: ( وفي أَنْفُسِكُمْ أَفلا تُبْصِرُون ). وَكَذلِكَ سَخَّرَ لهُ هذه المَخْلُوقاتِ المُشاهَدةِ فقال: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ). أي: أنَّ اللهَ سَخَّرَ لِهذا الإنسانَ, النجومَ والشَّمْسَ والقَمَرَ, والبحارَ والأنهارَ, والجبالَ والدَّوابَّ والمعادِنَ وأصنافَ الأشجارِ والثمار. كُلُّ ذلكَ لهذا الإنسانِ خاصة, لِيَنتَفِعَ بها.
فَلَما خَلَقَ اللهُ هذا الإنسانَ في أحسنِ تَقْويم, أَمَرَهُ بأَنْ يَكونَ سائِراً على الصراطِ المُستقيم, وهو الإيمانُ بِهِ وبِرَسُولِه, والقيامِ بِطاعتِه. ولِكنَّه أَبَى وامتَنَعْ إلا القَليل. ولذلك قال سبحانَه: ( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِين ), أي: لَمَّا تَرَكَ الأمرَ الذي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهِ, وبَحَثَ عَنِ السعادَةِ والرِّفْعَة والعُلُوِّ بِغَيرِ الإيمانِ والعَمَلِ الصالح. رَدَّهُ اللهُ إلى أسْفلِ سافِلِين. إلا مَنِ استثناهُ اللهُ, وهُمُ المُؤْمِنونَ الصالِحون. لأنَّ الإيمانَ ليسَ مُجَرَّدَ دَعْوَى تُقالُ باللسانِ, وإنما هُوَ قَوْلٌ واعتِقادٌ وَنيةٌ صادقة, وعَمَلٌ صالِحٌ يَدُلُّ على ذلك. وضابِطُ العَمَل هو متابعةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
فَهؤُلاء قَدْ ضَمِنَ اللهُ لَهُمْ الفَوزَ بِرَحْمَتِه يَوْمَ القِيامةِ بِقَولِه: ( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ), أي: غَيْرُ مَقْطُوع, بل دائِمٌ لا يَزولُ ولا يَحُول. وهذا الأجْرُ الدائِمُ ليسَ كأُجُورِ الدُّنيا, وإنَما هُوَ أَجْرٌ مُخْتَلِفٌ, قالَ اللهُ فيه: ( أَعْدَدْتُ لِعِبادِيَ الصالِحينَ ما لا عَيْنٌ رأتْ, ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ, ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشر ).
ثُمَّ قالَ تعالى: ( فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدِّين ), والدِّين: هو يومُ القيامة, والبَعْثِ والحِساب. كما قال تعالى: ( ثُمَّ ما أدراكَ ما يومُ الدِّين * يومَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفسِ شيئا والأمرُ يومئِذٍ لله ). فيكونُ المُراد: بأيِّ حُجَّةٍ يأتِي هؤلاءِ ويُكَذِّبون بِالدِّين, وبالبَعْثِ والحِسابِ مَعَ وُضُوحِ الأدلةِ على ذلك؟ وهم يعلمون أن اللهَ خَلَقَهَم قَبْلَ ألا يكونُوا شيئا. ويَعْلَمُونَ أَنَّ إعادَةَ الخَلْقِ أَهْوَنُ مِنْ بَدْئِه. كما قالَ تعالى: ( وَهُوَ الذي يَبْدأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيه ), وقالَ تعالى: ( وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَه قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيم ). ولذلكَ أَخْبَرَ اللهُ أَنَّ مِنْ أعْجَبِ العُجابِ أنْ يُكَذِّبَ الإنسانُ بالبَعْثِ فقال: ( وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُم أَءِذا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
عبادَ الله: لَقَدْ خَتَمَ اللهُ هذِهِ السورةَ بقولِه: ( ألَيْسَ اللهُ بِأَحكَمِ الحاكِمين ), أليسَ اللهُ الذي خَلَقَ الإنسانَ أطوارًا بعدَ أطوار، وَأَوْصَلَ إليهِم مِنَ النِّعَمِ والخيرِ والبِرِّ ما لا يُحْصُونَه، ورَبَّاهُم التربيةَ الحسنة، وأَمَرَهُم بالإيمانِ الذي بِهِ تَصْلُحُ قُلُوبُهُمْ وأعمالُهُم.
أليسَ اللهُ الذي جَعَلَ يومَ الدِّينِ الذي هُوَ يَوْمُ الفَصْلِ بَينَ الناسِ, لِيَحْكُمَ بالعَدْلِ, ويُعَاِقَب الظالمَ, ويَقْتَصَّ لِلْمَظْلُومِ, ويُثِيبَ أَهْلَ طاعتِه, ويُعاقِبَ أَهْلَ مَعصيتِه, بِأحْكَمِ الحاكِمين في كُلِّ ما خَلَق؟ بَلَى, سبحانه وبحمده, لا إله إلا هو. فإنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ عَبَثا, ولَمْ يَتْرُكْهُم سُدى.
اللهم آت نفوسنا تقواها, وزكها أنت خير من زكاها اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاما ومحكومين، اللهم أنزل على المؤمنين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجهم من الظلمات إلى النور وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابِك وسنةِ نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا ذا الجلال والإكرام، ، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلهم وزلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم فرّق كلمتهم وشتت شملهم وسلط عليهم مَنْ يسومهم سُوء العذاب، اللهم لا تجعل لهم منة على المؤمنين، واجعلهم غنيمة سائغة للمؤمنين يا قوي يا متين يا رب العالمين، اللهم احفظ بلادنا ممن يكيد لها، اللهم احفظ بلادنا ممن يكيد لها، اللهم أصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|