ليسَ
مِنَّا مِنْ لَم يَرحَمْ صغيرَنا، ويعرِفْ حَقَّ كَبيرِنا
إِنَّ
الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ
شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا
مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ:
اتَّقُوا اللهَ تَعالى، واعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ
مَحاسِنِ الإسلامِ، مُراعاةَ حُقُوقِ الناسِ عَلَى اخْتِلافِ أَعْمارِهِمْ،
لأَنَّ أَهْلَ الإسلامِ، الذين تَرَبَّوا عَلى تَعالِيمِه، لابُدُّ وأَنْ تَظْهَرَ
أَثَارُهُ عَلى أَخْلاقِهِم، فإنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم، بُعِثَ
لِيُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ.
ومِمَّا وَرَدَ في هذا البابِ العَظِيمِ،
قَوْلُ النبيِّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلمَ: ( ليسَ
مِنَّا مِنْ لَم يَرحَمْ صغيرَنا، و يعرِفْ حَقَّ كَبيرِنا ).
فَفِي قَوْلِهُ لَيْسَ
مِنَّا: وَعِيدٌ وتَحْذيرٌ، أي: مَنْ كانَ كذلك، لا يَرْحَمُ الصغيرَ، ولا
يُوَقِّرُ الكبيرَ، فَلَيْسَ على طَريقَتِنا وهَدْيِنا وسُنَّتِنا.
مَنْ لم
يَرْحَمْ صَغيرَنا: فَيَعْطِفُ عَلَيْهِ، ويُعْطيهِ حَقَّه من الرِّفْقِ،
واللُّطْفِ، والشَّفَقةِ، وَيُرْشِدُهُ إلى مَصَالِحِهِ في أَمْرِ دِينِهِ
ودُنْياه، وَيُحَذِرُه مِن المَخاطِرِ والأشياءِ التي تَضُرُّه بالطَريقَةِ التي
تُناسِبُ عَقْلَه وتَفْكِيرَه، وَيَكُونُ قُدْوَةً صالِحَةً لَه، وَلا يَفْعَلُ
أَمَامَه فِعْلاً مُحَرَّمًا، أَوْ أَمْرًا لا يَلِيقُ، لأَنَّ الصغيرَ يُقَلِّدُ
الكَبيرِ.
وَقَوْلُهُ وَيَعْرِفُ
حَقَّ كَبيرِنا: أيْ يُعْطيهِ حَقَّه منَ التَّعْظيمِ والإِكْرامِ،
والاحْتِرامِ.
والكبيرُ عَلى ثَلاثَةِ أَقْسامٍ:
الأَوَّلُ: كَبيرُ
السِّنِّ، قال رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ( إن
من إجلالِ اللهِ إكرامَ ذي الشَّيْبَةِ المسلمِ ). أيْ: إنَّ مِن تَبْجيلِ
اللهِ وتعظيمِه وأداءِ حَقِّه. إكرامَ وتعظيمَ وتوقيرَ، ذي الشَّيْبَةِ المسلمِ،
أي: الشَّيخُ الكَبيرُ في السِّنِّ.
ومِن إكرامِهِم:
احْتِرامُهُم إذا تَكَلَّمُوا، وَعَدَمُ مُقاطَعَتِهمْ، واحترامُ توجيهاتِهِم، والاسْتِفادَةُ
من خُبْراتِهِم في الحياةِ. فإذا نَصَحَكَ الكبيرُ فلا تُهْمِلْ نَصِيحَتَه،
حَتَّى لَوْ لَمْ تُعْجِبْكَ، فَلا تُهْمِلْها، وتأمَّلْها إذا جَلَسْتَ وَحْدَك.
وما أَكْثَرَ القَراراتِ التي يَتَّخِذُها الشَّخْصُ أيَّامَ الشبابِ، أو الْمُراهَقَةِ،
ثُمَّ يَنْدَمُ أَنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ بِنَصائِحِ الكِبارِ فِيها. فَإِذا
أَتَتْكَ نَصِيحَةٌ أو تَوْجِيهٌ مِنْ كَبِيرٍ، فاعْلَمْ أَنَّه اخْتَصَرَ لَكَ
سِنِينًا طَوِيلَة مِنْ الخِبْرَةِ فِي دَقائِقَ. فَبَدَلًا مِنْ أَنْ تَعِيشَ
زَمَنًا طَوِيلًا كَيْ تَتَعَلَّمَ وَتَسْتَفِيدَ مِنْ حياتِكَ، أَتَتْكَ نَصيحَةٌ
جاهِزَةٌ تَخْتَصِرُ لَك هذا كُلَّه. ولا يَعْنِي أَنَّه لابُدَّ أَنْ يَكُونَ
عَلَى صَوابٍ، لِأَنَّه بَشَرٌ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا، وَلِكِن لا تُهْمِلْ
نَصِيحَتَه، وادْرُسْها وتَأَمَّلْها، فَإِنَّها فِي الغالِبِ تَصُبُّ في
مَصْلَحَتِكَ، خُصُوصًا إذا أَتَتْكَ مِنْ أَبِيكَ أَوْ أَخِيكَ أو اُسْتاذِكَ.
وَمِنْ إكْرامِهِم:
تَقْدِيمُهُمْ في الصَّلاةِ إذا اسْتَوَوْا في الْمُؤَهَّلاتِ، قال رسولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( يَؤُمُّ القَوْمَ
أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فإنْ كَانُوا في القِرَاءَةِ سَوَاءً، فأعْلَمُهُمْ
بالسُّنَّةِ، فإنْ كَانُوا في السُّنَّةِ سَوَاءً، فأقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فإنْ
كَانُوا في الهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَكْبَرُهُم سِنًّا، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ
الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ في بَيْتِهِ علَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا
بإذْنِهِ ). وكذلك يَجِبُ أَنْ يُرَاعَوا في
الصلاةِ، فَيَنْبَغِي لِلإمامِ إذا كانَ في جَماعَةِ المسجِدِ كِبارٌ في
السِّنِّ، أَنْ يَتَجَنَّبَ الإطالَةَ التي تَشُقُّ عَلَيْهِم، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهِ عليه وسلم: ( إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ، فإنَّ
مِنْهمُ الضَّعِيفَ والسَّقِيمَ والكَبِيرَ ).
وفي السلامِ، يُسَلِّمُ الصغيرُ عَلَى الكبيرِ،
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( يُسَلِّمُ
الصَّغِيرُ علَى الكَبِيرِ، والمارُّ علَى القاعِدِ، والقَلِيلُ علَى الكَثِيرِ )،
ويُقَدَّمُ في المُجالِسِ، ويُقَدَّمُ أَيْضًا في التعامُل،
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَرانِي في
المَنامِ أتَسَوَّكُ بسِواكٍ، فَجَذَبَنِي رَجُلانِ، أحَدُهُما أكْبَرُ مِنَ
الآخَرِ، فَناوَلْتُ السِّواكَ الأصْغَرَ منهما، فقِيلَ لِي: كَبِّرْ،
فَدَفَعْتُهُ إلى الأكْبَرِ ).
وأَعْظَمُ الكِبارِ حَقًّا: الوَالِدانِ،
أَعْظَمُ الحُقُوقِ بَعْدَ حَقِّ اللهِ، فإنَّ بِرَّهُما والإِحْسانَ إلَيْهِما،
فَرْضٌ واجِبٌ، وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّهِما، وَضَعْفِ قُواهُما، فإنَّ
حاجَتَهُما إلى البِرِّ والإِحْسانِ والرِّفْقِ واللُّطْفِ والعِنايَةِ
والخِدْمَةِ وخَفْضِ جَناحِ الذُلِّ مِن الرَّحْمَةِ، أَكْثَرُ مِنْ ذِي قَبْلُ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً
كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ الله: النَّوْعُ
الثانِي: كَبيرُ القَدْرِ، كالأميرِ والوَزيرِ، والْمديرِ، والْمَسْئُولِ،
وَمَنْ لَه قَدْرٌ ومَكانَةٌ في المَجْلِسِ، أَوْ في أسْرَتِه، أَو في قَبِيلَتِه.
وهَؤُلاءِ لابُدَّ وأَنْ يُعْرَفَ قَدْرُهُم واحْتِرامُهُمْ، لِأَنَّه دِينٌ
ومُرُوءَةٌ.
النَّوعُ
الثالِثُ: كَبيرُ العِلْمِ، فالعالِمُ، كِبيرُ القَدْرِ، وَلَو
كان شابًّا، وأَعْني بالعالِمِ: مَنْ كانَ عالِمًا بِالكِتابِ والسُّنَّةِ، ومِنْ
أَهْلِ السُّنَّةِ، السائِرِينَ على ما كانَ عَلَيْهِ النبيُّ صلى اللهُ علَيْه
وسلمَ وأصحابُهُ في العِلْمِ والعَمَلِ.
وهؤلاءِ العُلَماءُ أَيْضًا عَلَى اخْتِلافِ أعمارِهِمْ،
لابُدَّ أَنْ يُرَاعُوا حَقَّ كبارِهِم، فإنَّ العُلَماءَ الكِبارَ لَهُمْ
قَدْرُهُم واحْتِرامُهُم والأَخْذُ بِمَشُورَتِهِم وَتَوْجِيهاتِهِم، وَعَدَمُ
التَقَدُّمِ بَيْنَ أَيْدِيهِم، خُصُوصًا في الفِتَنِ والنَّوازِلِ، فَإِنَّ ذلكَ
مِنْ أَعْظَمِ حُقُوقِ العُلَماءِ، لِأَنَّ الاِنْعِزالَ عَنْ كِبارِ العُلَماءِ
يُفْضِي إلى الفُرْقَةِ والشِّقاقِ، بَلْ قَدْ يُفْضِي إلى الشُّذُوذِ عَن
الجَماعَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ ومُشاهَدٌ.
اللَّهُمَّ
اهْدِنا لِأَحْسَنِ الأخْلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلا أَنْتَ، واصْرِفْ
عَنَّا سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَها إلا أنْتَ، اللهم خلصنا من حقوقِ
خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين، وألحقنا في الصالحين يا رب
العالمين، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها
معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير
والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم اجمع
كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً
على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم احفظ لبلادنا
دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها واستقرارها واحم حدودها وانصر جنودها يا ذا
الجلال والإكرام، اللهم وفق حكامنا وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين يا
حي يا قيوم، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة
وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم
نُزُلَهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقّهم من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب
الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، ﴿
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|