خُطُورَةُ الْمُخاصَمَةِ بِالباطِلِ والقَوْلِ في
المُسْلِمِ ما لَيْسَ فيه
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الناسُ: اتَّقُوا اللهَ تعالى،
واحْذَرُوا الظُلْمَ فَإِنَّه ظُلُماتٌ يَوْمَ القِيامَةِ، واعْلَمُوا أَنَّ مِنْ
أَعْظَمِ حُقُوقِ المُسْلِمِ، كَفَّ الأَذَى عَنْهُ، وتَرْكَ الاعْتِداءِ عَلَيْه.
والظُّلْمُ والاعْتِداءُ لَهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ، ومِنْ صُوَرِهِ ما وَرَدَ في
حَدِيثِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، أَنَّه قال: ( مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ
دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي
بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ
عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ
الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قال ). فَيا لَهُ مِنْ حَدِيثٍ عَظِيمٍ
تَضَمَّنَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً لِلأُمَّةِ.
فَأَوَّلُ ما في هذه المَوْعِظَةِ قَوْلُه: (مَنْ
حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ) أَيْ مَنْ شَفَعَ وتَوَسَّطَ في تَرْكِ إقامَةِ الحَدِّ، عَلَى مَنْ قامَت عَليْهِ
البَيِّنَةُ وَوَصَلَ أَمْرُهُ إلى القاضِي، فَقَدْ ضادَّ اللهَ في أَمْرِهِ
وأَحْكامِهِ، لأَنَّه حَالَ بَيَّنَ العُقُوبَةِ التي أَوْجَبَها اللهُ،
وتَسَبَّبَ في تَعْطِيلِها، وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَمْرَ إِذا وَصَلَ إلى
القاضِي، لا يَجُوزُ لِأَحَدٍ كائِنًا مَنْ كانَ أَن يَتَدَخَّلَ، أَو يَشْفَعَ
أَوْ يُحاوِلَ التأثِيرَ عَلى مَجْرَى القَضِيَّةِ.
الثاني قَوْلُه: (وَمَنْ خَاصَمَ فِي
بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ
عَنْهُ) أيْ مَنْ دَخَلَ في قَضِيَّةٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى حَقٍّ فِيها،
وأَنَّ الحَقَّ مَعَ خَصْمِهِ، وإِنَّما يُرِيدُ المُراوَغَةَ، أَو المُماطَلَة،
أو الانْتِصارَ عَلى خَصْمِهِ، أوْ إلْحاقَ الضَّرَرِ بِهِ، أَو التَشَفِّيَ مِنْه،
أَوْ الانْتِصارَ لِطَرَفٍ آخَر. حَتَّى لَوْ كان هذا المُخاصمُ وَكِيلاً عَنْ
غَيْرِه، فإنَّه لا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَ هذه الوَكالَةَ، وكذلك لَوْ كانَ
مُحامِيًا، فإِنَّه يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَمْرَ القَضِيَّةِ، وحالَ
مُوَكِّلِهِ، وهَلْ هُوَ عَلى حَقٍّ أَمْ عَلى باطِلٍ، لِأَنَّ المُحامِيَ داخِلٌ
في الحُكْمِ، ومُعِينٌ عَلَى الإثْمِ والعُدْوانِ. فَإنَّه لا يزالُ في سَخَطِ
اللهِ، أي في غَضَبٍ مِن اللهِ، مُسْتَحِقٌّ لِعُقُوبَتِهِ العاجِلَةِ والآجِلَةِ، حتى يَنْزِعَ عَنْه، أَيْ يَتْرُكَ هذه المُخاصَمَةَ، ويُقِرَّ بالحَقِّ لأَهْلِه.
ويُدْخُلُ في ذلك: الشَّكاوَى الكَيْديَّةُ
لَدَى المَحاكِمِ، أو المَسْئُولين، أَو الجهاتِ الإداريَّةِ المُخْتَصَّةِ، ضِدَّ
الآخَرينِ بِقَصْدِ إلْحاقِ الضَّرَرِ أَو التَشَفِّي أَوْ الانتِقامِ، أَوْ
حِرْمانِهِمْ مِن الحُقُوقِ أَو الامْتِيازاتِ. وهذا كُلُّه مُحَرَّمٌ ولا يجُوزُ،
وهُوَ مِن الاعْتِداءِ والبَغْيِ والظُّلْمِ، ومِنْ أَسْبابِ سَخَطِ اللهِ وغَضَبِهِ،
ومِنْ أسْبابِ العُقوباتِ العاجِلَةِ في الدنيا قَبْلَ الاخِرةِ. قال رسولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم: ( بابَانِ مُعَجَّلانِ عُقُوبَتُهُما في الدنيا: البَغْيُ
والعَقُوقُ ).
الثالث قَوْلُه: (وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ
مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا
قال): أيْ يَرْمِيهِ بِشَيءٍ لَيْسَ فيهِ، أَوْ يُشَوِّهُ سُمْعَتَه بِما لَيْسَ
فيه، وكَثيرٌ مِن الناسِ يَتساهَلونَ في ذلك، تُجاهَ مَن يُبْغِضُونَهُم، أَوْ
يَحْمِلُونَ عَليْهِم في صُدُورِهِم. وأَكْثَرُ الناسِ عُرْضَةً لِذلك: هُم
العُلَماءُ والأُمَراءُ والمَسْئُولون، فَما أَكْثَرَ الذين يَلُوكونَ
أَلْسِنَتَهُم تُجاهَهُم، بِلا بَيِّنَةٍ أَو مَعْرِفَةٍ، أو خَوْفٍ مِن الوُقُوفِ
بَيْنَ يَدَي اللهِ الذي لا تَخْفَى عَلَيْهِ خافِيَةٌ، ولا يَضيعُ عِنْدَه حَقٌّ.
وعُقُوبَةُ هؤلاءِ: هِيَ رَدْغَةُ الخَبالِ،
قِيلَ: هي عُصارَةُ أَهْلِ النارِ وصَديدُهُم، يُحْبَسُونَ فيها، وتكُونُ
مَسْكَنَهُم والعِياذُ باللهِ. حَتى يَخْرُجوا مِمَّا قالُوا، وذلك بالتوبَةِ،
وتَصْحِيحِ ما أَفْسَدُوه، وذلك بالاعْتِرافِ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا في حَقِّ مَنْ
رَمَوه بِالباطِلِ وَوَصَفُوهُ بِما لَيْسَ فيه، أَو بالتَحَلُّلِ مِمَّن
اتَّهَمُوه.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ اللهِ: إِنَّ تَحَرِيمَ القَوْلِ في
المُسْلِمِ بِما لَيْسَ فيه، لا يَعْنَي جَوازَ ذَمِّهِ في غَيْبَتِهِ بِمَا هُوَ فيه. فإِنَّ كِلاهُما
مُحَرَّمٌ ومِن الكبائِرِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَتَدْرُونَ ما
الغِيبَةُ؟ ) قالوا: اللهُ ورسولُهُ أَعْلَم. قال: (ذِكْرُكَ أَخاكَ بِما تَكْرَه)، قالوا: أَرأيْتَ إِنْ كان في أَخِي ما أَقُول؟ قال: (إِنْ كانَ فيه ما تَقُولُ
فَقَدْ اغْتَبْتَه، وإِنْ لَمْ يَكُنْ فيه ما تَقُولُ فَقَدْ بهَتَّه).
والبُهْتانُ هُوَ الكَذِبُ، والقَوْلُ فيهِ بِما لَيْسَ فيه. فيا أَيَّها
المُسْلِمُ كُنْ عَلى حَذَرٍ، وجاهِدْ نَفْسَكَ مِن أَجْلِ سَلامَتِها، فإنَّ
السَّلامَةَ لا يَعْدِلُها شَيْءٌ، وإِيَّاكَ أَنْ تُوقِعَها فِي وَرْطَةٍ
يَصْعُبُ الخُرُوجُ مِنها. واعْلَمْ أَنَّكَ قَدْ تَتَسَرَّعُ وتُطْلِقُ كَلِمَةً
فَتَنْدَمُ عَلَيْها عُمُرَك، وَتَتَمَنَّى أَنَّكَ سَكَتَّ وَلَمْ تَقُلْها،
فَإِنَّ العَبْدَ يَمْلِكُ نَفْسَه ما دامَ صامِتًا، فَإذا تَكَلَّمَ فَلا بُدَّ
أَنْ يُراقِبَ لِسانَه، فَيَجْعَلَهُ كَمَنْ يَمْشِي حافِيًا عَلَى أَرْضٍ ذاتِ
شَوْكٍ، لا يَخْطُو إلا بِحَذَرٍ.
اللهم إنا نَسْألكَ
السَّلامَةَ والعافِيَةَ والنَّجاةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ، اللهم خلصنا من حقوق
خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين، واجعلنا في الآخرة من الصالحين،
اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاما ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة
وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل كلمتهم واحدة واجعلهم قوة واحدة
على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دمائهم
وولّ عليهم خيارهم واجعل ولايتهم فيمن خافك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين، اللهم
احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم أخرجها من الفتن والشرور
والآفات ومن هذا البلاء، واجعلها أقوى مما كانت، وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت،
وأصلح مما كانت، اللهم أصلح أهلها وحكامها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم
يدا واحدة على من عداهم يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) . .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|