خُطورةِ الحِيَل وعُقُوبَتُها
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها المسلمون: اتقوا اللهَ تعالى, واعلموا أن مِنْ أعظَمِ الذنوبِ التي نَهَى اللهُ عنها: ما يَفْعَلُهُ بَعضُ ضُعَفاءِ الإيمان, مِن الإحتِيالِ على الأحكامِ الشرعية, مِنْ خِلالِ التَوَصُّلِ إليها بِطُرُقٍ ظاهِرُها الإباحة, وهي مُحَرَّمَةٌ في الأصل, وقد ذَكَرَ اللهُ ذلك في كِتابِه, وذَكَرَ عُقُوبَتَه, مُحَذِّراً عِبادَه مِن الوُقُوعِ في هذا الذنْب. واشْتَهَرَ هذا الذَنْبُ القَبيحُ عن اليهود. فمَن فَعَلَه مِنْ هذِه الأُمَّةِ فقد تَشَبَّهَ بِهِم, وَوَقَعَ في ذَنْبٍ عُقُوبَتُه مُعَجَّلَةٌ في الدنيا قبل الآخِرة.
والحِيلَةُ هي: القيامُ بِعَمَلٍ ظاهِرُهُ الجوازُ والصِّحَّةُ, مِنْ أجْلِ إِبطالِ حُكْمٍ شرْعي, والمَقْصودُ منهُ الوُصولُ إلى عَمَلٍ مُحَرَّم.
وقد وَرَدَ في القرآنِ والسُّنَّةِ أَدِلَّةٌ على تَحريمِ الحِيَلِ, بَيَّنَ الشارِعُ الحَكِيمُ مِنْ خِلالِها أنها ذنْبٌ كبير, وسَبَبٌ لِنِقْمَةِ اللهِ على فاعِلِه في الدنيا والآخرة:
الدليلُ الأول: قصةُ أصحابِ السبت, وَهُمُ اليهود, قال تعالى: ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ). وكان اللّهُ تعالى قد أمَرهم أن يُعَظِّمُوا يومَ السبت, ويحترموه ولا يصيدوا فيه صيدا، فابتلاهم اللّه وامتحنهم، فكانت الحِيتانُ تأتيهم يومَ السبتِ كثيرةٌ طافِيَةٌ على وجهِ البحر. وفي بقية أيامِ الأسبوعِ لا تَأْتِيهِمْ, أي: تذهب في البحر فلا يرون منها شيئا, ابتلاءً مِنَ الله. بِسَبَبِ كَثْرَةِ فِسْقِهِم, فَلَوْ لَمْ يَفْسُقُوا، لَمْ يُعَرِّضْهُم اللهُ لِهذا البلاء. لكنَّهُم لَمْ يَصْبِرُوا فَتَحَيَّلُوا على الصيد، فكانوا يَحْفِرون لها حُفَراً، ويَنْصِبون لها الشِّباكَ لَيْلةَ السبتِ، فإذا جاءَ يومُ السبتِ وَوَقَعَت الحِيتانُ في تلكَ الحُفَرِ والشِّبَاك، لم يأخذوها في ذلك اليوم، فإذا جاء يومُ الأحدِ أخذوها, وقالوا: ما صِدْنا يومَ السبتِ, وإنما صِدْنا يومَ الأحَد.
الدليل الثاني: تَحْريمُ الشُّحومِ على بني إسرائيل, حَيْثُ أذابُوها, ثُمَّ باعُوها, وقالوا: ما بِعنا شحماً, وإنما بِعنا دُهناً. قال رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( قاتَلَ اللهُ اليهود, إن اللهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَها جَمَلُوه، ثم باعُوه، فأكلوا ثَمَنَه )
الدليل الثالث: قَوْلُ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( لَعَنَ اللهُ المُحُلِّلَ والمُحُلَّلَ لَه ), والمُحَلِّلُ هو الذي يَتَزوج المُطلَّقَةَ ثلاثاً, وليس قَصْدُه النِّكاحَ, وإنما قَصْدُه تَحْليلَ المَرْأَةِ لِزَوْجِها الأوَّل, فهذا هو التَّيْسُ المُستَعار. وَقَدْ دَلَّتِ الأدِلَّةُ على أنَّ المُطَلَّقَةَ ثلاثاً لا تَحِلُّ لزوجِها الأوَّلِ إلا بثلاثةِ شُروط: الشرطُ الأول: أنْ تَنْكِحَ زَوجا غيره. الشرط الثاني: أن يكونَ نكاحُ الثاني نِكاحَ رَغبَةٍ, لا يَقْصِدُ به التَحْليل. الشرط الثالث: أنْ يجامِعَها في الفرج وَتَحْصُلَ مَعه الشهوةُ وذَوْقُ العُسَيْلَة. فإنْ جامَعها في دُبُرِها, أوْ كانَ عِنّيناً لا يُجامِع, أو كانَ مَحبوساً بِعَمَل فَلَمْ يجامِعها, فعاشَتْ عنده دهراً, ثُمَّ طَلَّقَها أو ماتَ عنها, لَمْ تَحِلَّ لِزوجِها الأول.
وهذه الصُّوَرُ بِأَدِلَّتِها, تَدُّلُّ على أَنَّ الحِيلَةَ لا تُغَيِّرُ مِنَ الحُكْمِ عِنْدَ اللهِ شيئاً. وليسَ المَقْصودُ هو حَصْرُ تَحريمِ الحيلَةِ عليها, وإِنما هي أمْثلَةٌ فقط. فَقَدْ حَرَّمَ النبي صلى اللهُ عليه وسلمَ الإحتيالَ على عُمالِ الزكاةِ هروباً مِنَ الزكاة, وَحَرَّمَ بيعَ العِينَةِ لأنه تَحايُلٌ على الربا. وَيَدْخُلُ في ذلك كُلُّ ما كانَ في مَعناها. فالبائعُ الذي يُظْهِرُ السِّلعةَ المَعِيبةَ على أنها سليمةٌ, قَدْ تحايَلَ على أخيهِ المُسلمِ ليَقبِضَ كامِلَ قيمَتِها. والطَبيبُ الذي يُظْهِرُ للمَريضِ أنه لا يَسْتَطيعُ تَشخِيصَ حالَتِه إلا بالفُحُوصاتِ والتحاليلِ الدَقيقة, معَ العلمُ أنها لا تَسْتَلزِمُ ذلك, قَد تحايل على المَرضَى مِنْ أجْلِ تَحْصيلِ أكبرِ قَدْرٍ مُمْكِن مِنَ المكاسِب. وكَذلك الموظَّفٌ الذي يَضَعُ العَراقيلَ والعَقباتِ أمامَ مُعاملاتِ المُراجِعين, كي يُلْجِئَهُم إلى دَفْعِ الرَّشوةُ داخِلٌ في ذلك. حيثُ جَمَعَ بينَ جريمتين: الحيلةِ والرَّشوةِ والعياذُ بالله.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
عباد الله: لقد أخبرَ اللهُ في كِتابِه, أنه عذَّبَ بَعْضَ بني إسرائيلَ في الدنيا بِسَبَبِ تحايُلِهِم, مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ عُقَوبَةَ هذا العَمَلَ مُعَجَّلَةٌ في الدنيا قَبلَ الآخرة, كما قال تعالى: ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ). فَمَسَخَهُمُ اللهُ قِرَدَةً بِسَبَبِ تَحايُلِهِم. وفي مَسْخِهِم قِرَدَةً حِكْمَةٌ مِنَ الله, فإنَّ القردَ قي الظاهِرِ فيه شَبَهٌ بالإنسان, حتى في بَعْضِ تصرُّفاتِه, ولكنه في الحقيقةِ ليسَ إنساناً. وهكذا الحيلَةُ فإنها في الظاهِرِ عَمَلُ مُباح, لكنها في الباطِنِ ليست كذلك.
ومِنْ رحمةِ اللهِ بِعِبادِه: أنه إذا مَسَخَ بَعْضَ العُصاةِ, فإنه لا يَجْعَلُ لَهُمْ نَسْلاً, كَيْ يَنْقَرِضُوا, لِئَلاَّ يَعِيشَ الناسُ في حَرَجٍ. روى مسلمٌ في صحيحه عن عبدِاللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا، فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ ), وعند الطبرانيِّ في الأوسط, قال: سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ؟ فقَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ إِذَا غَضِبَ عَلَى قَوْمٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ نَسْلا وَلا عَاقِبَةً ).
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك, وبعفوك من عقوبتك, وبك منك لا نحصي ثناء عليك اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنّا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها, دقها وجلها, أولها وآخرها, علانيتها وسرها، اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكاها, أنت وليّها ومولاها، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاما ومحكومين، اللهم أنزل على المؤمنين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجهم من الظلمات إلى النور وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابِك وسنةِ نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن إخواننا في سوريّا، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم ارفع الظلم والطغيان عنهم، اللهم اكشف كربتهم، اللهم اجعلهم من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل بلاء عافية، اللهم اكسهم وأطعمهم، اللهم ارحم موتاهم واشف مرضاهم، وفك أسراهم وردهم إلى وطنهم رداً جميلاً يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل عذابك الشديد وبأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين على من تسلّط عليهم وظلمهم يا قوي يا عزيز، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ يسومهم سُوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها واستقرارها، اللهم احفظها ممن يكيد لها، اللهم أصلح حكامها وأهلها، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |