مَعْنَى قولِه تعالى: ( ولا يزالون مُختلفِين إلا مَن رحم ربُّك )
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقوا اللهَ تعالى, واعلموا أن اللهَ أمَرَ بالإعتِصامِ بِحبلِه, ونهى عن التفرُّقِ والإختِلاف. ولقد حكمَ اللهُ تعالى أن يبتلِيَ عبادَه بِذلِك, لِيَتَبيَّنَ أهلُ الإختلافِ والفُرْقةِ, مِن أهلِ الإجتماعِ والرحمة, فقال: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ). فأخبَرَ سبحانه أنَّه قادرٌ على جَعْلِ الناسِ كُلِّهِم أمَّةً واحدة, أي: على دينٍ واحِد, ولكنه قَضَى بِحِكمتِه وعِلْمِه أنْ يَبْتَلِيَهُم, وأنْ يَبْلُوَ بعضَهُم بِبَعض, ولذلك قال: ( وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ), أي: ولا يزالُ الإختلافُ بين الناس على أدْيانٍ شتى, ومَذاهِبَ شَتَّى, وآراءٍ شتى. لأن الباطِلَ مُتَعَدِّدٌ, بِخِلافِ الحق فإنَّه واحد.
وقوله: ( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ), أي: إلا المرحومين المُعتَصمين بِحَبْلِه, المُتَّبعين لِرَسولِه صلى الله عليه وسلم, فإنهم الفرقةُ الناجيةُ السالِمَةُ من الضّلالِ والإختِلاف, وفي الآخرةِ من العذاب. وعلى هذا فيكون معنى الآيةِ: ( وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) يعني: الناسَ كُلَّهم. ( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) يعني: مَنْ كانَ على التوحيدِ والسُّنة, وإن تَفَرَّقَت دِيارُهُم وأبدانُهُم.
وقوله: ( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) عائِدٌ على قولِه: ( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ), أي: خَلَقهم لِيَعْتَصموا بِحَبلِه ويَكونوا على التوحيدِ والسُّنة. لا لِيَخْتَلِفوا, لأن الإختلافَ مَذْموم, قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: " لِلرحمةِ خَلَقَهُم, ولم يخْلُقْهُم للعذاب ". فإن اللهَ تعالى نَهى عن الإختلافِ والفُرْقة, فكيفَ يَخْلُقْهُم لها؟!.
فَفِي قولِهِ تعالى: ( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) بيانٌ لِلحِكمةِ مِن خلقِ الناس. ويُفَسِّرُ ذلك قولُه تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ), فإن القرآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُه بَعضا. فإن اللهَ خلقَهم لِيَعْبُدوه ويفوزوا بِرحمتِه ويَعْتَصِموا بِحَبلِه. فَمِنْهُم مَن عَبدَه وأطاعَه, وهُم المَعْنِيُّونَ بِقَولِه: ( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ). وَمِنْهُم مَن عصاه, وَهُمْ أهْلُ الفُرْقَةِ والإختِلافِ, المَعْنِيُّونَ بِقولِه: ( وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ).
وَقَدْ شاعَ عِنْدَ كثيرٍ مِنَ الناسِ بعضُ المفاهيمِ الخاطِئَة, والتي تَتَنافى مَعَ ما دلَّت عليهِ الأدلَّةُ مِن وُجُوبِ الإجتِماعِ ونَبْذِ التَّفرُّقِ والإختِلاف. وتُنافي القَولَ بأن الحقَّ واحِدٌ لا يَتَعَدَّد, بِخِلافِ الباطِلِ فإنه مُتَعَدِّدٌ وأهلُهُ مُختَلفون.
وَمِن هذه المفاهيم الخاطِئَةِ, قَولُهُم: الإختِلافٌ رَحْمَة!!! مُسْتَدِلِّينَ بحديثِ: ( اختلافُ أمتي رحمة ), وهو حديثٌ ضعيفٌ عند أهلِ العلم, وباطلٌ سنداً ومتنا. فَهُوَ مِنْ حَيْثُ الإسناد قَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ بالحديثِ على ضَعْفِه. وَمِنْ حَيْث المَعنَى: فَهو مُخالِفٌ لِلأدِلَّةِ مِنَ القرآنِ والسُّنّة, والتي تَذُمُّ الإختِلافَ, وتُبَيِّنُ أن الحق واحدٌ لا يختلِف, لأنه مِن عندِ الله, كما قال تعالى: ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا ). وقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( وَمَن يَعِشْ مِنْكُم فسيرى اختِلافاً كثيرا, فعليكم بسُنَّتِي وسُنةِ الخلفاءِ الراشدينَ المَهْدِيين مِن بعدي ). وقال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: " الخِلافُ شر ".
ولكن مِنْ رحمةِ الله, أنه ليسَ كُلُّ خِلافٍ يُؤاخَذُ صاحِبُه. وإنما الخلافُ الذي يُؤاخَذُ صاحِبُه, ما كانَ مُتَعلِقاً بالعقيدةِ وأصولِ الدِّين, أو كان مُخالِفاً للأدلة الصحيحة الصريحة, أو كانَ مُخالِفاً للإجماع, أو كانَ مبنيا على الهوى والتعصُّب. وأما ما سوى ذلك, فليسَ هناكَ أحدٌ مَعصوم, خاصةً في مسائِلِ الإجتهاد, أو التي يسوغُ فيها الخِلاف.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عباد الله: ومن المفاهيمِ الخاطِئَةِ أيضاً: ما يُحاوِلُ أهلُ الباطِلِ دَسَّهُ, مِنْ أَنَّ الرأيَ الواحِدَ خطأٌ ولو كان صواباً!!!, كما نقرأه ونسمعه اليوم مِنْ بَعْضِ المُتعالمين أو المتاجِرينَ باسم الدين, أو مِمَّن يُسَمَّوْن بالمثقفين, وَبَعْضِ كُتَّابِ الصُّحُف, الذين جَنَّدُوا أنفسهم لِرَدِّ الأدِلَّةِ مِنَ الكتاب والسنة, ومُناطحة العلماء, وانتقادِهم عَلَناً باسم حُرِّية الفِكر والرأي, والتَّعَدُّدِيَّة, ولِغَرَضِ ترويجِ ما يَحْمِلُونه من الباطل الذي لا يجني منه المجتمع إلا الإنسلاخَ من تعاليم الإسلام, وزعزعةَ ثِقَتِهم بِأَحكامِ الشريعةِ وعُلَمائِها, مع كثرةِ انتقادِهم لِعُلَماء الشريعة, وتسفيهِ آرائِهم, واتهامِهم بالآحادِيَّة والظَلامِيَّة والتَحَجُّر. من خلالِ التغريداتِ والصحف والفضائيات ومواقع الإنترنت, حَيْثُ يَصُولُون ويَجُولُون في مسائل الشريعة, ويُبْهِرُون القارئَ أو المُسْتَمِعَ أو المُشَاهِدَ بِذِكرِ الخلافات في المسائل, ليُظهِروا للمُتَابِع أنهم على عِلْم واطلاع ودراية, وأنهم قد أَشْبَعُوا المسائل التي يتكلمون عنها بحثاً وتنقيباً, كي يَغْتَرَّ بهم الناسُ والأغْرارُ والخفافيش, فيثقون بما يقولون, ثم يدعمون أقوالهم بالرد على أحد الراسخين في العلم, فيقولون: قال الشيخ فلان هداه الله وعفا الله عنه, وأخطأُ الشيخُ فلان, كي يستقرَّ عند المُتابع أنهم ممن يُقارِعُون الحجج ويُقَرِّرون المسائل, وبعدها يَبُثُّون السُّمُوم التي لا يصمد أمامها إلا من رحم الله.
فاتقوا اللهَ أيها المسلمون, واعلموا أن هذا العلم دين, فاعرفوا عمن تأخذون دينكم.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا تُلّبسه علينا فنضلّ، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شرور أنفسنا، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين يا رب العالمين، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجّهم من الظلمات إلى النور يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الكتاب والسنة، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لعدوهم منةً عليهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم نج إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم اللهم سلط عليهم منْ يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها، اللهم احفظها ممن يكيد لها، اللهم احفظها ممن يكيد لها، اللهم وفق حكامها وأهلها برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |