خُطُورَةُ الحِرْصِ عَلَى المالِ والشَّرَفِ، وأَهَمِّيَّةُ المُحافَظةِ عَلَى المالِ العامِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد، أَيُّها الناسُ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى،
وَاْبْذُلُوا أَسْبَابَ صَلَاحِ قُلُوبِكُمْ، واحْذَرُوا الأَسْبابَ التي
تَضُرُّها، وتَحُولُ بَيْنَها وَبَيْنَ تَعَلُّقِها بِاللهِ. أَلَا وَإِنَّ مِنْ
أَكْثَرِ مَا يَضُرُّ دِينَ الْمَرْءِ، حِرْصَه عَلَى المَالِ والشَّرَفِ والجاهِ
في الدُّنْيا، يَقُولُ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَا
ذِئْبانِ جائِعانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ، بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ
عَلَى المَالِ والشَّرَفِ لِدِينِهِ ). مَا ظَنُّكُمْ يا عِبادَ اللهِ
بِذِئْبَيْنِ جائِعَيْنِ، دَخَلَا زَرِيبَةَ غَنَمٍ لَيْسَ عِنْدَهَا راعٍ
يَحْمِيها؟ وَمَا هُوَ الفَسادُ الذي سَيُحْدِثانه؟ مَعَ العِلْمِ أَنَّ واحِدًا
مِنْهُما كافٍ فِي إِلْحاقِ الضَّرَرِ. وَمَعَ ذلكَ أَخْبَرَ النبيُّ صلى اللهُ
عليه وسلم، أَنَّ هَذَيْنِ الذِّئْبَيْنِ لَيْسَا بِأَشَدَّ إِفْسادًا لِتِلْكَ
الغَنَمِ، مِنْ إِفْسادِ الحِرْصِ عَلَى المالِ والجاهِ لِدِينِ المَرْءِ. أَمَّا المالُ:
فَإِنَّ فِي اللَّهَثِ فِي جَمْعِهِ وَشِدَّةِ طَلَبِهِ مَلْهَاةً لِلْقَلْبِ،
وَانْشِغالًا عَنْ الطاعةِ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبابِ التَّرَفِ
وَالتَنَعُّمِ، وَقَدْ يَجُرُّ حُبُّه إلَى مَنْعِ حَقِّ اللهِ، كَالزكاةِ،
وَغَيْرِها مِن النَّفَقَةِ الوَاجِبَةِ. وَرُبَّمَا يَجُرُّ صاحِبَه إِلَى
الكَسْبِ الحَرامِ، لِأَنَّ حُبَّ الْمالِ يُعْمِي وَيُصِمُّ، وَقَدْ يَجُرُّ إلى
أَكْلِ الرِّبا، أَوْ الاخْتِلاسِ والغُلُولِ، أَوْ الرَّشْوَةِ، خُصُوصًا مَنْ
كانَ مُوَظَّفًا في الدَّوْلَةِ أَوْ مَسْؤولَا، فَإِنَّ الْمالَ العامَّ أَخْطَرُ
مِن الْمالِ الخاصِّ، وحُرْمَتَهُ أَشَدُّ، لِأَنَّه مالُ الْمُسْلِمِين،
فالتَعَدِّي عَلَيْهِ هُوَ تَعَدٍّ عَلَى أَمْوالِ الْمُسْلِمين، ولَيْسَ تَعَدٍّ
على مالِ شَخْصٍ بَعَيْنِه، ولذلك تَكُونُ الوَرْطَةُ فيه أَشَدَّ. قال رسولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ
مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا
يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ). وقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم
فِيمَنْ أخَذَ هدِيَّةً أُهْدِيَت له فَأخَذَها لِنَفْسِهِ: ( هَلَّا جَلَسِ في بَيْتِ أُمِّهِ لَيَنْظُرَ هَلْ يُهْدَى
له؟ ). مِمَّا يَدُلُ على أَن الْمُوَظَّفَ لا يَجوزُ له أَنْ يَسْتَغِلَّ
الوَظِيفَةَ لِنَفْعِهِ الخاصِّ، سواءً كانَ مُوَظَّفاً صَغِيرًا أو كَبيرًا،
وأَنْ لا يَقْبَلَ الهَدِيَّةَ مِن أَحَدٍ، فإنْ فَعَلَ فَهِيَ غُلُولٌ يأتِي بِهِ
يَوْمَ القِيامَةِ. ويَشْتَدُّ الأَمْرُ عِنْدما تَكُونُ الهَدِيَّةُ في مُقابِلِ
خِدْمَةٍ قَدَّمَها. فالواجِبُ على الْمُوَظَّفِ والْمَسْئُولِ أنْ يَعْلَمَ
بِأَنَّ كُرْسِيَّ الوَظِيفَةِ والْمَنْصِبِ أَشَدُّ خَطَراً مِن كُرسِيِّ
البَقَّالَةِ وبَقِيَةِ الْمَتاجِرِ. وهذا يَدُلُّ
عَلى أَنَّ النَّزاهَةَ والأَمانَةَ في الأموالِ، ومُحارَبَةَ الفسادِ في ذلك،
والحِفاظَ عَلى الْمالِ العامِّ، وعَدَمَ الاعْتِداءِ عَلَيْهِ، مُسْئُولِيَّةُ
الجَمِيعِ، مِمَّا يُوجِبُ تَعاوُنَ أَفرادِ الْمُجْتَمَعِ ومَسْئُولِيهِ في ذلك،
حَتَى ما يَتَعَلَّقُ بالإبلاغِ عَنْ جرائِمِ الفساد ومُرْتَكِبِيها. وَأَمَّا
الشَّرَفُ: فَالْمُرادُ بِهِ الرِّفْعَةُ والجَاهُ والسُّمْعَةُ والْمَنْصِبُ
والرِّئَاسَةُ وَمَا شَابَهَ ذلك، وَهُوَ أَشَدُّ إِهْلَاكًا مِنْ الحِرْصِ عَلَى
الْمالِ، وَضَرَرُهُ أَعْظَمُ، والزُّهْدُ فِيهِ أَصْعَبُ، وَهُوَ فِي الغالِبِ
يَمْنَعُ خَيْرَ الآخِرَةِ وشرَفَها وكَرامَتَها وعِزَّها، قالَ تَعَالَى: ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا والعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين
). وَقَلَّ مَنْ يَحْرِصُ عَلَى رِيَاسَةِ الدُّنْيا بِطَلَبِ الوِلِايَاتِ
فَيُوَفَّقُ، بَلْ يُوْكَلُ إلَى نَفْسِهِ، كَمَا قالَ النبيُّ صلى اللهُ عليه
وسلمَ لِعَبْدِ الرحمنِ بْنِ سَمُرةَ: ( يَا عَبْدَ
الرحمنِ لَا تَسْأَلِ الإماَرَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَها عَنْ مَسْأَلَةٍ
وُكِلْتَ إِلَيْها، وَإِنْ أُعْطِيتَها مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْها
). وقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( إِنَّكُمْ
سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيامَةِ،
فَنِعْمَتِ الْمُرضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفاطِمَةُ ). لِأَنَّها أَمانَةٌ
عَظِيمَةٌ، وصاحِبُ الْمَنْصِبِ مَسْؤُولٌ أمامَ اللهِ. وَنَحْنُ
اليَوْمَ فِي زَمَانٍ يَفْرَحُ فِيهِ الإنسانُ حِينَ
يُوَلَّى، بَلْ وَتَأْتِيهِ التَّبْرِيكاتُ، مَعَ العِلْمِ، أَنَّه قَدْ حَلَّتْ
بِهِ مُصِيبَةٌ!، وَبِحاجَةٍ إلى الدُّعاءِ، والنُّصْحِ والتَّذْكِيرِ بِعِظَمِ
الأمانَةِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ. وَلَا يَعْنِي ذلك أَنْ يَمْتَنِعَ الكُفْءُ إذا
وُلِّي، لِأَنَّ الْمَحْذُورَ هُوَ السَّعْيُ إِلَى ذلكَ والحِرْصُ عَلَيْهِ. باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم ؛ وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه
مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم؛ أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ
لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم. الخطبة
الثانية الحمدُ
للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى
الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ
أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد: عِبادَ اللهِ: وَمِن
الحِرْصِ عَلَى الشَّرَفِ: طَلَبُ الرِّفْعَةِ عَلَى الناسِ بِالأُمُورِ
الدِّينِيَّةِ، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ
طَلَبَ العِلْمَ لِيُجارِي بِهِ العُلَمَاءَ، وَيُمَارِي بِهِ السُّفَهاءَ، أَوْ
لِيَصْرِفَ وُجُوهَ الناسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللهُ النارَ ). وَمِن طَلَبِ الشَّرَفِ بِالدِّينِ أَنْ يَطْلُبَ
العَبْدُ بِالعِلْمِ والدَّعْوَةِ والعِبادَةِ والزُّهْدِ، الرِّيَاسَةَ عَلَى
الخَلْقِ والتَّعالِيَ عَلَيْهِم، أَوْ الشُّهْرَةِ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ
تُسَجَّرُ بِهِمْ النارُ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهُمْ رَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ
لِيُقالَ عالِمٌ، وَقَرَأَ القُرْآنَ لِيُقالَ قارِئٌ، فَيُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ
حَتى يُلقَى فِي النارِ. وَيَدْخُلُ
في هذا البابِ الخِطِيرِ: الجُرْأَةُ عَلَى الفُتْيَا،
والحِرْصُ عَلَيْها. قالَ عَلْقَمَةُ: كانُوا يَقُولُونَ: " أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيِا أقَلُّكُم عِلْمًا
". وقالَ ابنُ أبِي لَيْلَى: " أَدْرَكْتُ
عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الأَنْصارِ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم،
يُسْألُ أحدُهُم عَنْ الْمَسْأَلَةِ، فَيَرُدُّها هَذا إلَى هَذَا وَهَذَا إلَى
هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الأَوَّلِ ". وقالَ ابنُ عُيَيْنَةَ:
" أَعْلَمُ الناسِ بِالفَتَاوَى أسْكَتُهُم
فِيها، وَأَجَهَلُهُمْ بِهَا أَنْطَقُهُم فِيهَا ". اللهم
آتِ نفُوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم اكفنا
بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عما سواك، اللهم خلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في
الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين
واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين،
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح
لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من
كل شر، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمةً
عامة وهداية عامةً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ
الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم انصر
المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم
احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم وفق ولاة أمرنا لما يرضيك، واجعلهم
أنصاراً لدينك، وارزقهم البطانة الناصحة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم
اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك
اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء
والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا
إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ . وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا : http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|