إخْلاصُ الخَوْفِ لله،
وبذلِ أسبابِ الوِقايِ مِن المرضِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أَنَّ الخَوْفَ مِن اللهِ
تعالى مِنْ أَعْظَمِ مَقاماتِ الدِّينِ وأَجَلِّها، وإخْلاصُه للهِ تعالى فَرْضٌ عَلَى
كُلِ أَحَدٍ، قال تعالى: ( فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) وقال تعالى: (
فَلَا تَخَافُوهُمْ وخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين ). فَأَمَرَ اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ بِالخَوْفِ، وَأَوْجَبَهُ وَجَعَلَهُ مِنْ
لَوَازِمِ الإيمانِ، فَعَلَى قَدْرِ إيمانِ العَبْدِ
يَكُونُ خَوْفُهُ مِن الله. ومِنِ أَجْلِ ذلكَ صارَ التَّخْوِيفُ أَحَدَ
مُهِمَّتَيْ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِم،
فَإِنَّ اللهَ أَرْسَلَهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. والإِنْذارُ: هُوَ
الإِبْلاغُ عَلَى وَجْهِ التَّخْوِيفِ مِنْ عَذابِ اللهِ تعالى وَنِقْمَتِه،
ومِنْ فَواتِ ثَوابِهِ ورَحْمَتِهِ.
والخَوْفُ يا عِبادَ اللهِ أَرْبَعَةُ أقسامٍ:
القِسْمُ الأوَّلُ: خَوْفُ السِّرِّ، وذلكَ بِأَنْ يَخافَ مِنْ غَيْرِ اللهِ فِيمَا
لا يَقْدِرُ عَلَيْه إلا الله، وهذا هُوَ ما كانَ المُشْرِكُونَ
يَعْتَقِدُونَه في أصنامِهِم وآلِهَتِهِم، ولِهذا يُخَوِّفُونَ بِها أَوْلِياءَ الرحمنِ،
كَمَا خَوَّفُوا إبراهيمَ الخَلِيلَ عليه والسلامُ، فقالَ لَهُمْ: ( وَلَا أَخَافُ مَا
تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ
عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا
تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ). وهذا القِسْمُ هُوَ الواقِعُ اليَوْمَ مِنْ عُبَّادِ القُبُورِ، فَإِنَّهُم يَخافُونَ الأمْوَاتَ والطَّواغِيتَ والجِنَّ، كَمَا يَخافُونَ اللهَ بَلْ أَشَدُّ. وَلِهذا تَجِدُهُم
يَجْرُؤُونَ عَلَى الحَلِفِ بِاللهِ كَذِباً، ولَكْنَّهُم لا يَجْرُؤُونَ عَلَى ذلك إذا
حَلَفُوا بِالأَوْلياءِ والصالِحين، وكَذَلكَ إذا وَقَعَ أَحَدُهُم في مَأْزِقٍ
أَوْ مَظْلَمَةٍ أَوْ خَوْفٍ، طَلَبَ كَشْفَهُ وإزالَتَه مِنْ الأمْواتِ
أَوْ الجِنِّ أوْ غَيْرِهِم مِنْ المَخْلُوقِينَ.
فَهذا
الخَوْفُ يا عِبادَ اللهِ لا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِغَيْرِ اللهِ أَصْلاً،
لِأَنَّ هذا مِنْ لَوازِمِ الإِلَهِيَّةِ، فَمَنْ اتَّخَذَ مَعَ اللهِ نِدًّا يَخافُ
أَنْ يُصِيبَه بِما يَشاءُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ قَتْلٍ وَنَحْوِ ذلك
بِقُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ عَلَى سِبِيلِ الاسْتِقْلالِ،
فَهذا مُشْرِكٌ، وإِنْ صامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أنَّه مِنْ
أَهْلِ التوحيدِ.
القِسْمُ الثاني مِنْ أقسامِ الخَوْفِ: أَنْ يَتْرُكَ العَبْدُ ما يَجِبُ
عَلَيْهِ مِن الدعوةِ والإنكارِ وغَيْرِ ذلكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ،
وَإِنَّمَا خَوْفًا مِنْ أَذِيَّةِ الناسِ أَوْ خَوْفًا عَلَى سُمْعَتِه أَوْ
مَصْلَحَتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذلكَ مِنْ الأسبابِ، قال
تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا
تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، أيْ:
يُعَظِّمُ أوْلِياءَهُ في صُدُورِكُم وَيُوهِمُكُم أَنَّهُمْ أَقْوَى مِنْكُمْ
وَأَمْكَنُ مِنْكُم، فَلا تَخافُوهُمْ وَتَوَكَّلُوْا عَلَيَّ
فَإِنِّي كافِيكُم. وَفِي قَوْلِه تَعالى: ( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) دَلِيلٌ
على أَنَّ الخَوْفَ مِنْ أعمالِ القُلُوبِ التي لا يَصِحُّ الإيمانُ إلا بِها، قالَ
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ اللهَ تَعالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ
القِيامَةِ: ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَ المُنْكَرَ أَنْ تُغَيِّرَه؟ فَيَقُولُ: يا
رَبِّ خَشِيتُ الناسَ، فَيَقُولُ الله: إِيَّايَ كُنْتُ أَحَقَّ أَنْ
تَخْشَى ).
القِسْمُ الثالِثُ مِنْ أقسامِ الخَوْفِ: الخَوْفُ الطَّبِيعِيِّ،
كالخَوْفِ مِنْ العَدُوِّ والسَّبُعِ، فَهذا لا يُذَّمُّ عَلَيْهِ الإِنْسانُ،
لِأَنَّه يَحْصُلُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، قال تَعالَى عَنْ عَبْدِهِ مُوسى عليهِ
السلامُ: (فَخَرَجَ مِنْها خَائِفًا يَتَرَقَّبُ). وأَخْبَرَ اللهُ تعالى أَنَّ
مُوسى عليه السلامُ قال لِفِرْعَونَ: (فَفَرَرْتُ مَنْكُم لَمَّا خِفْتُكُم).
وهكذا الخَوْفُ مِنْ الفَقْرِ، فإنَّه خَوْفٌ طَبيعِي،
بِدَلِيلِ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتعاذَ مِنْه. وهكذا الخَوْفُ مِن
المَرَضِ، فإنَّه خَوْفٌ طَبيعِي، لأَنَّ النبيَّ صلى
اللهُ عَليه وسلم، اسْتعاذَ مِنْ سَيِّئِ الأسْقامِ. وبَذْلُ
أسبابِ السلامَةِ والوِقايَةِ مِن المَرَضِ لا يُعَدُّ مِن الخَوْفِ المَذْمُومِ، بَلْ
هُو مَطْلُوبٌ، وما تَسْمَعَونَ به مِن التَوْجيهاتِ عَبَرَ الْحَملةَ السَّنَويّةِ للوِقايةِ الانفلَّوَنَزَا الْمَوْسِمِيّّةِ، التي تَهدفُ إِلى بيَانِ أَهمِّيَّةِ أَخذِ اللِّقَاح، للِوِقَايةِ مِن الإِصَابَةِ، وَخاصةً الفِئَةَ الأَشَدَّ عُرْضةً للخَطَرِ، داخِلٌ في ذلك، إذا كانَ العبدُ مُتَوَكّلاً على اللهِ، مُوقِناً بِأنَّ مَا أَصَابَه لمْ يكنْ لِيُخْطِئَهُ، ومَا أَخطأَهُ لمْ يكن ِيُصِيبَهُ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
القِسْمُ الرابعُ مِنْ أقسامِ الخَوْفِ: الخَوْفُ الذي يَحْمِلُ العَبْدَ
عَلَى الإيمانِ، واتِّباعِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم،
والتَّوْبَةِ وفِعْلِ الواجباتِ وتَرْكِ المُحَرَّماتِ،
وتَذَكُّرِ المَوْتِ، والوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ اللهِ،
والتَّخَلُّصِ مِنْ مَظالِمِ العِبادِ. فإِنَّ هذا هُوَ الخَوْفُ المَحْمُودُ الصَّحِيحُ،
فإذا زادَ على ذلك فإِنَّه قَدْ يُؤَدِّي إلى القُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وذلك
مِنْ الكَبائِرِ، سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ما
الكبائرُ؟ فقال: ( الشِّرْكُ باللهِ، والإِياسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، والقُنُوطُ
مِنْ رحَمَةِ الله )، وَلِذلِكَ أَثْنَى اللهُ جَلَّ وَعَلَا
عَلَى مَنْ قَرَنَ الخَوْفَ بِالرَّجاءِ فِي مَواضِعَ مِنْ كِتابِهِ، قال تعالى: (
إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا )
وقال تعالى: ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ
الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ).
اللهم ارزقنا تقواك، واجعلنا نَخْشاكَ
كَأَنَّنا نَراكَ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا
الجلال والإكرام، اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها
ومولاها، اللهم خلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين
وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً
ومحكومين، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة
الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين،
اللهم أخرجها من الفتن والشرور والآفات، واجعلها أقوى مما كنت،
وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت، وأصلح مما كانت، اللهم أصلح أهلها وحكامها واجمع
كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا واحدة على من عداهم يا قوي يا عزيز، اللهم
اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب
مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )
.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|