كيف
يكون العبور على الصراط
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واعلَمُوا
أَنَّ في يومِ القيامةِ أهوالاً عِظاماً وشدائدَ جِساماً، يَنْبَغِي على كُلِّ
مسلمٍ أن يَسْتَعِدَّ لَها، ويَتَزَوَّدَ لها بِتَقْوَى الله، فَقَد أمَرَ اللهُ
بِهذا الزادِ فقال: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ).
وأَوَّلُ أَمْرٍ يَدْخُلُ في هذا الزادِ: هو الإيمانُ بِما يَكُونُ في ذلك اليومِ
العَظِيم، فإِنَّه كُلَّما قَوِيَ إيمانُ العَبْدِ بِذلك، كَمُلَ اسْتِعْدادُه.
ومِن أَعْظَمِ ما سَيَكونُ في ذلك اليومِ العَظِيمِ مِن الأَهوال التي يَنْبَغِي
أَن نَتَزَوَّدَ لَها بِنُورِ الإيمانِ، وضِياءِ الأَعْمالِ: ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ
حالِكَةٌ تُلْقَى على الناسِ قَبْلَ المُرُورِ على الصِّراطِ، لا يَرَى أَحَدٌ
فيها حَتَّى كَفَّه، ومِن وَراءِ تِلْكَ الظُّلْمَةِ نارُ جَهَنَّم، فَما أَحْوَجَ
العِبادِ إِلى نُورٍ يَسْتَضِيئُون بِه عِنْدَ العُبُورِ، فإِنَّه مَوقِفٌ عَظِيمٌ
رَهِيبٌ, يَشِيبُ لَهُ رأْسُ الصَّغيرِ، ومن شِدَّةِ هَوْلِه أَنَّ المَلائِكَةَ
إذا رأَتْ هَولَ الظُّلْمَةِ والصِّراطِ قالوا لِربِّهِم " ما عَبَدْناكَ
حَقَّ عِبادَتِك " وهُمْ عِبادٌ مُكْرَمُون، لا يَعْصُونَ اللهَ ما
أَمَرَهُم، ويَفْعَلُون ما يُؤْمَرَون، فَكَيْفَ بِنا إذا رَأَينا الظُّلْمَةَ
والصِّراطَ؟!. قال ثَوْبانُ رضي الله عنه: سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاوَاتُ؟ فَقَالَ: ( هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ ). والجِسْرُ
هو: الصِّراطُ الذي يُنْصَبُ على مَتْنِ جَهَنَّم أَحَدُّ مِن السيفِ وأَدَقُّ مِن
الشَّعْرِ، فالظُّلْمَةُ قَبْلَ الصِّراطِ، وفي تِلك الظُّلْمَةِ قَسْمُ
الأَنْوارِ بَيْنَ العِبادِ بِحَسَبِ ثَباتِهِم على الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ في
الدنيا، وبِحَسَبِ نَصِيبِهِم مِن الإيمانِ والعَمَلِ الصالِحِ. فَلا يَكُونُ
النُّورُ على قَدْرِ رصيدِ الإنسانِ مِن المالِ أو الجَمالِ أو النَّسَبِ أَو
الجاهِ أو المَنْصِب. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( يَجْمَعُ اللَّهُ
النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قال: فَيُنادِي مُنادٍ: يا أَيُّها الناس ... إِلى
أَنْ قال: فَيُعْطَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ, فَمِنْهُمْ مَنْ
يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الْجَبَلِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى
نُورَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ النَّخْلَةِ
بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى دُونَ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، حَتَّى يَكُونَ
آخِرُ ذَلِكَ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ, يُضِيءُ مَرَّةً
وَيُطْفِئُ مَرَّةً، فَإِذَا أَضَاءَ قَدَّمَ قَدَمَهُ، وَإِذَا طُفِئَ قَامَ.
فَيَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَالصِّرَاطُ كَحَدِّ السَّيْفِ دَحْضٌ مَزِلَّةٌ،
قَالَ: فَيُقَالُ انْجُوا عَلَى قَدْرِ نُورِكُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ
كَانْقِضَاضِ الْكَوْكَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالطَّرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرَّحْلِ وَيَرْمُلُ
رَمَلًا فَيَمُرُّونَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، حَتَّى يَمُرَّ الَّذِي نُورُهُ
عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يَجُرُّ يَدًا وَيُعَلِّقُ يَدًا، وَيَجُرُّ رِجْلًا
وَيُعَلِّقُ رِجْلًا, فَتُصِيبُ جَوَانِبَهُ النَّارُ، قَالَ: فَيَخْلُصُونَ
فَإِذَا خَلَصُوا، قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْكَ بَعْدَ
إِذْ رَأَيْنَاكَ، فَقَدْ أَعْطَانَا اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا ).
اللهُ أَكْبَر: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا
مَتَاعُ الْغُرُورِ ).
أيُّها المؤمنون: لَقَد ذَكَرَ اللهُ في
كِتابِه المُرُورَ على الصِّراطِ فقال: ( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ
عَلَىٰ
رَبِّكَ
حَتْمًا
مَّقْضِيًّا
), وذَكَرَ
أيضاً
في
كتابِهِ,
الأَنوارَ
المُقَسَّمَةَ
عَلَى
المؤمِنين
أَثناءَ
المُرُورِ
فقال:
( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ
مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى
وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ
الْغَرُورُ ).
وقال تعالى: ( يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ
النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا
إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمدُ للهِ الْواحدِ
الأحدِ الصمدِ الذّي لَمْ يَلدْ وَلَمْ يُولدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحد، فَاطرِ
السِّمَاواتِ وَالأَرْضِ، جَاعَلِ الْمَلائكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحةً مَثْنَى
وَثلاثَ وَرباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلِقِ مَا يَشاءُ، إنّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِير،
مَا يَفْتَحِ اللهُ للنِّاسِ مِنْ رَحمةٍ فَلا مُمسكَ لها، وَمَا يُمسكْ فَلا مُرْسِلَ
لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ
وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد:-
أيها المؤمنون: أكْثِرُوا مِن سُؤالِ اللهِ
الهِدايَةَ والتَّوفيقَ، والفَوزَ بِنُورِ الإيمان، فإن العَبْدَ لا يَنالُ ذلك
إلا بِتَوفيقِ الله، قال تعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا
لَهُ مِنْ نُورٍ ). واعْلَمُوا أَنَّ مَنْ بَذَلَ الأسْبابَ في ذلك، صادِقاً
مسْتَعيناً باللهِ، مُتَوَكِّلاً عَلَيه، فإن اللهُ يُعْطِيهِ ويُوَفِّقُه ولا
يَخْذُلُه. ومِن الأسبابِ: الإكْثارُ مِن الدُّعاءِ، فَقَدْ كان رسولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم لا يَدَعُهُ، خُصُوصاً ما يَتَعَلَّقُ بِشَأْنِ هذا النُّور، فقد
كان مِن دُعائِهِ في صلاةِ اللَّيْلِ: ( اللهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا،
وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ
يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا،
وَخَلْفِي نُورًا، وَعَظِّمْ لِي نُورًا ).
ومِن الأسبابِ أيضاً: مُجاهَدَةُ النَّفْسِ
عَلى لُزُومِ الصِّراطِ المُسْتَقيم في الدنيا، فإنَّ أَكْثَرَ الناسِ نُوراً على
الصِّراطِ يَوْمَ القيامَةِ، أَكْثَرُهُم لُزُماً للصِّراط في الدنيا.
وأَسْرَعُهُم مُرُوراً على الصراطِ في الآخِرة، أَسْرَعُهُم سَيْراً عَلَيهِ في
الدنيا. وأَكْثَرُ الناسِ حَظًّا مِن النورِ في الآخِرةِ، أَكْثَرُهم لُزُوماً
لِنُورِ الإيمانِ والعَمَلِ الصالِحِ في الدنيا، وقد ذَكَرَ النبيُّ صلى اللهُ
عليه وسلم شيئاً مِن هذا النُّورِ بِقَولِه: ( بَشِّرِ المَشَّائِين في الظُّلَمِ
إلى المساجِدِ بالنُّورِ التامِّ يَومَ القِيامَة )، أي الذين يَتَرَدَّدُون على
المَساجِدِ لِصلاةِ العِشاءِ وصلاةِ الفَجْرِ، اللتين هُما أَثْقَلُ الصلاة على
المُنافقين.
اللهم
اتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم ثبتنا على دينك,
وثبت أقدامنا على الصراط واجعلنا من السابقين, واحشرنا معهم يا أرحم الراحمين.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا
الجلال والإكرام، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار،
اللهم ثبتنا على دينك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم خلصنا من حقوق خلقك
وبارك لنا في الحلال من رزقك، اللهم
أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا
آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل
شر، اللهم
آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم أصلح أحوال
المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل
باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع
رضاك، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم،
واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين،
اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد
لها، اللهم من أراد بلادنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره وتدبيره في
تدميره يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها
وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ
وسلم على نبينا محمد.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا : http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|