مراعاة
مشاعر الآخرين وأحوالهم
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واعلمُوا أنّ
حُسْنَ الخُلُقِ مِن أعظمِ خِصالِ الإيمانِ التي حَثَّ عليها الشارِعُ الحكيمُ،
قال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ).
وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخلاق
). وهذا يَدُلُّ على التلازُمِ بين الدينِ والخُلُق، فَبِقَدرِ ما عِنْدَ العبدِ
مِن الإيمانِ، يكونُ ما عِندَه مِن الأخلاقِ الفاضِلَةِ. ومِن الأخلاقِ
الرَّفِيعَةِ: ما يَتَعَلَّقُ بِمَشاعِرِ الآخَرِين، ومُراعاةِ أَحْوالِهِم.
فَإِنَّه خُلُقٌ مَطْلُوبٌ ولا تَنْتَظِمُ حَياةُ المُجْتَمَعِ وعلاقاتُهُم
بِدُونِه.
تَراه في إمامِ المسجدِ، عِنْدَما يَكُونُ
أَمِيناً في عَمَلِهِ، مُواظِباً على الوَقْتِ والصلاةِ في مَسْجِدِه، مُراعِياً
لِأَحْوالِهِم وظُرُوفِهِم، ( إذا صَلَّى أَحَدُكم للنَّاسِ فليُخَفِّف، فإنَّ
فيهم الضَّعيفَ والسَّقيمَ وذَا الحاجة ).
وتَراهُ أيضاً في المُؤَذِّنِ الأمِين، الذي
يُواظِبُ على الأذانِ في الوَقْتِ، خُصُوصاً في الأَزْمِنَةِ التي يِتَأَكَّدُ
فيها الأَمْرُ بالانْضِباط، كَوَقْتَي الفجرِ والمَغْرِبِ في رمضان.
وتَراهُ في المُوظَفِ الأمِينِ، الذي إذا
أتاه المُراجِعِ لِيُنْجِزَ مُعامَلَتَه، جَعَلَ نَفْسَه بِمَنْزِلةِ هذا
المُراجِع، لأنَّ مِن خَيْرِ الوَسائِلِ التي يَسْتَعينُ بِها المَوظَّفُ أو
المَسْؤُولُ على إنْجازِ مُعاملاتِ الناسِ، أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ في مكانِهِم،
وأَنَّ المُعامَلَةَ تَخُصُّه.
والشُّعُورُ بالآخَرِين، تَظْهَرُ أَهَمِّيَّتُه،
عِنْدَما يَصْطَفُّ الناسُ في الطَّوابِيرِ، فَيَأْخُذُ مَكانَ غَيْرِه بِكُلِّ
جُرْأَة، أو في مَواقِفِ السَّيَّاراتِ، عِنْدَما يَقِفُ الشَّخْصُ في مَكانٍ
خاطِئٍ خَلْفَ سَيَّارَةِ أَخِيهِ المُسْلِمِ أو أَمامَها، ويَسُدُّ عَلَيْهِ
مَنْفَذَ الخُرُوجِ وَيُعَطِّلُّه عن مَصالِحِه.
وتَظْهَرُ أَهَمِّيَّتُه مَعَ الشابِّ إذا
كان حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَيَرَى الحَياةَ الجَدِيدَة، والنِظامَ
المَعِيشِيَّ الجَدِيد، والقُيُودَ الجَديدَة، فَيَضْعُفُ بِسَبَبِها أَمامَ
أَدْنَى مُشْكِلَةٍ أو خِلافٍ مَعَ زوجَتِه، فَيَنْسَى مَشاعِرَها، ولا يُبالِي
بِما سَيُواجِهُهُ والِداهُ مِن إحراجٍ، ولا يُراعِي مَكانَةَ والِدَيْها
وعَطْفَهُما وحَنانَهُما على بِنْتِهما، أو الحَفاوَةَ بِه عِنْدَما جاءَ
يَخْطُبُها مِن أَهْلِها، فَيَنْسَى ذلك كُلَّه ويَلْجَأُ إلى هادِمِ البُيُوتِ،
ألا وهو الطلاقُ عِنْدَ أَتْفَهِ سَبَبٍ أو أَدْنى مُشْكِلَة.
والشُّعُورُ بالآخَرِين، تَظْهَرُ
أَهَمِّيَّتُه، في الأَماكِنِ التي لَيْسَت مُلْكاً لِأَحَدٍ، وإِنَّما هي لِمَن
سَبَقَ إِلَيْها، فَلا يَجوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَولِيَ عَلَيْها ويَجْعَلَها
كالمكانِ المَمْلُوكِ لَه، فَيَحْجِزَها لِنَفْسِهِ ويَحْرِمَ غْيرَهُ مِن
الانْتِفاعِ بِها، وإلا فإنَّه يكونُ غاصِباً وآثِماً، ويَتَأَكَّدُ الحُكْمُ إذا
كانَ ذلك في المَساجِدِ، سواءً كان يَومَ الجُمُعَةِ أو غَيْرِه، وسواءً كانَ في
الحَرَمِ أو غَيْرِه، فلا يَجُوزُ وَضْعُ سِجَّادَةٍ أو غَيْرِها لِيَسْتَأْثِرَ
بِالمكانِ لِنَفْسِهِ، إلا مَنْ سَبَقَ إلى المَكانِ ثُمَّ عَرَضَ لَه عارِضٌ
فَخَرَجَ مِن المَسْجِدِ بِسَبَبِه وفي نِيَّتِهِ الرُّجُوعُ فَإِنَّهُ أَحَقُّ
بِه، وما عَدَا ذلك، فَيَجِبُ عَلى المُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ، وأَنْ
يَعْلَمَ بِأَنَّه مَكانٌ مُشْتَرَكٌ، وصاحِبُ الحَقِّ فيهِ هو مَن سَبَقَ إليه.
ولَمَّا كان هذا العَمَلُ ظاهِرَةً سَيِّئَةً، شَكَّلَتْ الرِّئَاسَةُ العامَّةُ
لِشُئُونِ الحَرَمَين لَجْنَةً مِن أَجْلِ مُصادَرَةِ السَجَّاداتِ المَفْرُوشَةِ
التي لا يُوجَدُ عليها مُصَلُّون، لأن هذا العَمَلَ مُنْكَرٌ لا يَجُوزُ فِعْلُه.
بل إِنَّ هذا الأَمرَ يَتَجَلَّى في
أَعْظَمِ مِمَّا ذُكِرَ، فَيَظْهَرُ فيمَن تُحَدِّثُه نَفْسُه بالزِّنا، عِنْدَما
جاءَ شابٌّ يَسْتأْذِنُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الزنا، فقال له النبيُّ صلى
الله عليه وسلم: أَتُحِبُّه لِأمِّك؟ لِابنتِك؟ لِأختِك؟ لِعمتِك؟ لِخالَتِك؟،
كلُّ ذلك والشابُّ يقول: قال: لا واللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِداءَك. والنبيُّ صلى
الله عليه وسلم يقول: ولا الناسُ يُحِبُّونَه لِأُمهاتِم، لِبناتِهِم، لِأخواتِهِم،
لِعَماتِهِم، لِخالاتِهم. والأَمْثِلَةُ على أَهَمّيَّةِ مُراعاةِ مَشاعِرِ
الآخَرين كثيرة، وما تَقَدَّمُ إنما هو أَمْثِلَةٌ فَقَط.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ،
وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ
تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عباد الله: إِنَّ مَن نَظَرَ إِلى العباداتِ
والأِوامِرِ الشَّرْعِيَّةِ رَأَى فِيها ما يَدُلُّ على ذلك: فالصيامُ يُذَكِّرُ
المؤمنَ بِأَلَمِ الفقيرِ إذا جاعَ، والزَّكاةُ هي سَبَبٌ لِلتكافُلِ الاجتِماعِي
والتراحُمِ بَيْنَ المُجْتَمَعِ، ومراعاةٌ لِأحوالِ الفقراء. بَلْ وَحَتى في
الجدالِ والمُناظَرَةِ تَجِدُ هذا الخُلُقَ الرَّفيعَ ظاهِراً، قال رسولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم: ( أَنا زَعِيمٌ ببَيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ
المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا )، والمِراءُ هو الجدالُ، والمُرادُ أَنَّكَ إذا
جادَلْتَ أَحَداً فَقُلِ الحَقَّ، ولا تَزْدْ على ذلك، لأن هذا هو المطلُوبُ
مِنْكَ، ولِأَنَّ المُجادِلَ إِذا غُلِبَ، أَثَّرَ ذلك في نَفْسِه، وقَدْ يَعُوقُه
ذلك عن الرُّجُوعِ إلى الحَقِّ، فَمُراعاةً لِمَشاعِرِه، لا تَزِدْ عَلَيْهِ في
الكلام. ومِن ذلك أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كُنْتُم ثلاثةً فلا
يَتَناجى اثنانِ دُون الآخَرِ حتى تَخْتَلِطُوا بِالناسِ، مِن أَجْلِ أَنَّ ذلك
يُحْزِنُه ). فَيَنْبَغِي لِلمُسْلِمِ أَنْ يَتَحَلَّى بالأخلاقِ الفاضِلَةِ،
فإنها مِن علاماتِ الإيمان، بِشَرْطِ أَنْ لا يَكونَ ذلك على حسابِ دينِ المَرْءِ،
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( مَن التَمَسَ رضا اللهِ بِسَخَطِ الناسِ
كفاه اللهُ مُؤْنَةَ الناس، ومَن التَمَس رِضا الناسِ بِسَخَط اللهِ، وَكَلَهُ
اللهُ إلى الناس ).
اللهم
اهدنا لأحسن الأخلاق, لا يهدي لأحسنها إلا أنت, واصرف عنا سيئها, لا يصرف عنا
سيئها إلا أنت، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا
الجلال والإكرام، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار،
اللهم ثبتنا على دينك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم خلصنا من حقوق خلقك
وبارك لنا في الحلال من رزقك، اللهم
أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا
آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل
شر، اللهم
آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم أصلح أحوال
المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل
باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع
رضاك، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم،
واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين،
اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد
لها، اللهم من أراد بلادنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره وتدبيره في
تدميره يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها
وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ
وسلم على نبينا محمد.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|