نَزَغاتُ الشيطانِ
في أقوالِ العبادِ وأفعالِهِم
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ
ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد، عباد الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واحذَرُوا
نَزَغاتِ الشيطانِ، فَإِنَّ الشيطانَ يَسْتَغِلُّ كُلَّ قَوْلٍ أو فِعْلٍ يَصْدُرُ
مِن الإنسانِ تُجاهَ إخوانِه، كَيْ يَجْعَلَه بابًا لِإِفسادِ العلاقاتِ بين
الناسِ، وإيقادِ نارِ الشَّهوةِ، أو التأْويلاتِ الفاسِدَةِ، أو العَداوةِ
والبغضاءِ بَيْنَهُم، حتى لَو كان مَقْصَدُ الشَّخْصِ سَلِيمًا، ولذلك يَنْبَغِي
للمسلِمِ حِينما يَتَكَلَّمُ أَو يَتَصَرَّفُ أو يَتَعامُلُ مَعَ غَيْرِهِ، أَنْ
يَنْتَقِيَ الكلامَ أَو التصَرُّفَ الذي لا يُتَوَقَّعُ مِنْه التفسيراتُ
الخاطِئَةُ، كَي لا يَنْدَمَ على كَلامِهِ أو تَصَرُّفِه، فيقول: يا لَيْتَني لم
أَقُلْ كذا، يا لَيْتَني لَمْ أَفْعَلْ كذا، فإن الشيطانَ أَحْرَصُ ما يَكُونُ في
مِثْلِ هذه المَواقِفِ، لِيُفْسِدَ العلاقَةَ بين المُسْلِمِ وإخوانِه. أمَّا نَزغاتُ
الشيطانِ في الأقوال: فقد قال الله تعالى: ( وَقُل
لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ
بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ) ،
أي: وقُلْ لِعِبادِي إذا خاطَبُوا الناسَ أو حاوَرُوهُم، سواءً كانُوا مُؤمنين أو
كافِرين، أن يُراقِبُوا أَنْفُسَهُم فيما يَتَلَفَّظُون به، فَيَنْتَقُونَ مِن
الكلامِ أَحْسَنَه وأجْمَلَه، فإذا كان لَدَيْكَ كَلِمَةٌ حَسَنَةٌ، وكِلِمَةٌ
أَحْسَنُ مِنْها، فاخْتَر الكَلِمَةَ الأحسَنَ والأَجْمَل، لأنَ اللهَ تعالى، لَمْ
يَقُلْ: ( يَقُولُوا الحَسَن ) ، وإنَّما: ( الَّتي
هِيَ أَحْسَن ) ، فإِذا تَحاوَرْتَ مَعَ زَميلِك، فاحرِصْ على الأَلفاظِ
التي لا يَكونُ للشيطانِ فيها مَدْخَلٌ مِن خِلالِه يُفْسِدُ ما بَيْنَكَ وبين
أخيك، لِأَنَّ الشيطانَ يَتَصَيَّدُ مِن العباراتِ كُلَّ كَلِمَةٍ مُحْتَمِلَةٍ
لِمَعانٍ كَثيرَةٍ، فَيَخْتارُ أَسْوأَ المعاني، ويُلْقِيها في فَهْمِ السامِعِ،
وإذا تَحَدَّثْتَ مَعَ زَوجَتِك، فَإيَّاكَ أَنْ تَتَلَفَّظَ بِما قَدْ يُثِيرُ
الرِّيبَةَ أَو الشُّكُوكَ في قَلْبِها، أو يَكْسِرُ خاطِرَها، لِأَن الشيطانَ
أَحْرَصُ ما يَكُونُ على إفسادِ ما بين الزوجَين. بَلْ وحتَّى إذا شَتَمَكَ أَحَدٌ،
فيَنْبَغِي أَنْ تَتَحلَّى بِصِفاتِ عِبادِ الرحمنِ الذين إذا خاطَبَهُم
الجاهِلُون، لَم يُقابِلُوهُم بِالمِثْلِ، وإِنَّما بالكلامِ الطَّيِّبِ السالِمِ
مِن الإساءَةِ والتَّعْنِيف. والسَّبَبُ في ذلك:
هو أنَّ الشيطانَ يَنْزَغُ بَيْنَ العِبادِ، ويُفسِدُ بَيْنَهُم، ويُهَيِّجُ
بَيْنَهُم الشَّرَّ. فإِذا أَرَدْتَ أَنْ تَقُولَ كَلِمَةً لِأَحَدٍ مِن الناسِ،
ثُمَّ خَشِيتَ أَنْ يَفْهَمَها فَهْماً خاطِئًا، فَلا تَقُلْها، وابْحَثْ عَن غَيْرِها،
فَإِنَّ هذا مِن علاماتِ رَجاحَةِ العَقْلِ، والأَدَبِ الرَّفيعِ، ومِنْ أَعْظَمِ
أَسْبابِ دَرْءِ المَفاسِدِ المُتَعَلِّقَةِ بالعَداوَةِ والبَغْضاءِ بَيْن الناس.
فَإِنَّ بَعْضَ العِباراتِ قَدْ تَنْشَبُ بِسَبَبِها العَداواتُ حَتى لَو لَم
يَقْصِدْها المُتَكَلِّم، وقَدْ تَنْقَطِعُ بِسَبَبِها الصِّلاتُ، وقَد تَسُوءُ
علاقَةُ الرَّجُلِ مَعَ امْرأَتِه، بِسَبَبِ كَلِمَةٍ قالَها أَحَدُ أَقَارِبِهِ
أَو أَصْدِقائِه مازِحاً. فَكُونُوا على حَذَرٍ من ذلك يا عبادَ الله، فإِنَّ
الكَلِمَةَ إذا خَرَجَت مِن اللِّسانِ قَبْلَ فَحْصِها، قَدْ يَنْدَمُ قائِلُها
حتى لو كانُ قصْدُه صالِحاً، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِيَّاكَ وما يُعْتَذَرُ مِنه ) ، وفي لَفْظٍ: ( ولا تَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَعْتَذِرُ مِنه غَدًا ).
أَي لا تَقُلْ قَولاً، وتَعْمَلْ عَمَلاً، يُسَبِّبُ لك حَرَجاً يَجَعَلُكَ
تَلْتَمِسُ الأَعذارَ لِنَفْسِكَ، فَتَقُول: أَنا لَم أقْصِدْ كذا، وإِنَما
قَصَدتُ كذا. وتَأَمَّلُوا يا عِبادَ اللهِ، قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ،
عِنْدَما وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ، وَجَدَ
عَلَيْهِ جَماعَةً مِن الناسِ يَسْقُونَ، ورَأَى امْرَأَتَيْنِ شابَّتَيْنِ
مُتَنَحِّيَتَيْنِ، تَنْتَظِرانِ فَراغَ الرِّجالِ مِنْ السَّقْيِ، لِأَنَّ
مُزاحَمَةَ الرِّجالِ لَيْسَتْ مِنْ أَخْلاقِ المَرْأَةِ، ولِأَنَّ ذلكَ يُثِيرُ
الرِّيبَةَ والشُّكُوكَ حَوْلَها. ثُمَّ إِنَّه لَمَّا سَقَى مُوسَى لَهُما،
جاءَتْهُ إِحْداهُما بَعْدَ ذلكَ تَمْشِي عَلى اسْتِحْياءٍ، لم يَصْدُرْ مِنْها
شَيءٌ يُثِيرُ الرِّيبَةَ، ثُمَّ قالت: ( إِنَّ أبِي
يَدْعُوكَ ) ، ولَمْ تَقُلْ: " تَعالَ "، مع العِلْمِ أَنها لَو
قالَت ذلك لَمْ تَكُن مُخْطِئةً. ولم تَقْلْ: " زُرْنا في بَيْتِنا "،
أو " تَفَضَّل عِندَنا "، مَعَ العِلْم أَنَّها لو قالت ذلك، لَم تَكُن
آثِمةً ولا مُخْطِئَةً. ولَكن لَمَّا كانت هذه الكلماتُ تَحْتَمِلُ عِدَّةَ مَعانٍ،
وأَنَّ الشابَّ إذا سِمِعَها مِن الشابَّةِ، قَدْ يَذْهَبُ فِكُرُهُ بَعيداً،
تَخَيَّرَتْ الكَلِمَةَ التي لا تَسْمَحُ للسامِعِ أَنْ يُفَسِرَها تَفْسِيراً
مُريباً، فقالت: ( إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ ).
فَيا لَهُ مِن أَدَبٍ رفيعٍ، وتَرْبِيَةٍ صالحَةٍ. وفائِدَةٍ جَلِيلَةٍ نادِرَةٍ،
يَنْبَغِي أَنْ نُبَلِّغَها نِساءَنا وبناتِنا ونساءَ المُسلمين. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الخطبة الثانية الْحمدُ للهِ ربِّ
العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين،
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ
مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد: عباد
الله: وكَمَا أَنَّ الشيطانَ يَنْزَغُ في أَقوالِ
العبادِ، فإِنَّه يَنْزَغُ في أَفْعالِهِم أَيضاً، ولذلكَ يَجِبُ على
المسلِمِ أَنْ يَحْذَرَ مِن التصَرُّفاتِ والأَفعالِ التي قَدْ يَنْزَغُ الشيطانُ
بَيْنَه وبَيْنَ إِخْوانِهِ مِن خِلالِها، ولَو كان مازِحاً، قال رسولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم:( لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى
أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي
يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ). ونَهَى النبيُّ صلى الله
عليه وسلم عَنْ عَمَلٍ يَراهُ الناسُ سَهْلاً وَدَاخِلاً في المُمَازَحَةِ المُباحة،
وهُوَ على خِلافِ ذلك، وذلك عِنْدَما رَأَى رجُلاً مِنَ الصحابةِ أَخَذَ حَبْلَ
صاحِبِهِ مازِحاً، وفي نِيَّتِه أَنْ يَرُدَّه إليه، لكنَّه أرادَ أَنْ يُمازِحَه،
وأنْ يَخْتَبِرَ صَبْرَه وحِلْمَهُ، فَنَهاهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم، وقالَ
لَه: ( رُدَّه ). وقال أيضاً: ( لا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُم مَتاعَ أَخِيهِ لاعِباً ولا
جادًّا, ومَنْ أَخَذَ عَصا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّها ). والسَّبَبُ في ذلك: أَنَّه قَدْ يُفْضِي إلى
الخُصُومَةِ وإلْحاقِ الأَذَى. وبَعْضُ الناسِ يَتَساهَلُ في مِثْلِ هذه الأفعالِ
والمُمَازَحَةِ الثَّقِيلَةِ مع زملائه، مَعَ العِلْمِ أَنَّ عَوَاقِبَها
سَيِّئَةٌ، لِأَنَّها تَفْتَحُ باباً للشيطانِ في إفسادِ العَلاقَةِ ونَشْرِ
العَداوَة. اللَّهُمَّ
اهْدِنا لِأَحْسَنِ الأخْلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلا أَنْتَ، واصْرِفْ
عَنَّا سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَها إلا أنْتَ، اللهم خلّصنا من حقوقِ
خلقِك وباركْ لنا في الحلالِ من رزقِك، وتوفنا مسلمين، وألْـحِقنا في الصالحين يا
رب العالمين، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرِنا وأصلح لنا دنيانا التي
فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير
والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم اجمع
كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً
على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم احفظ لبلادنا
دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها واستقرارها واحم حدودها وانصر جنودها،
اللهم وفق حكامنا وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين يا حي يا قيوم، اللهم
اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب
مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾
.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|