مَوْعِظَةٌ
في الحَثِّ عَلَى الاسْتِعْدادِ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد، عِبادَ اللهِ: اتقُوا اللهَ تَعالَى،
وَراقِبُوه، واسْتَعِدُّوا قَبْلَ الْمَوْتِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ،
وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تَعالَى: ﴿ وَاضْرِبْ
لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ
ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾. فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ يَقُولُ
تَعالَى لِنَبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: اضْرِبْ لِلناسِ مَثَلَ الحَياةِ الدنيا
لِيَعْرِفُوها عَلَى حَقِيقَتِها، وَلِكَيْ يَحْذَرَ صاحِبُ القَلْبِ الحِيِّ مِنْ
زُخْرُفِها وَزِينَتِها، فَإِنَّ فِتْنَتَها عَظِيمَةٌ، والتَّعَلُّقَ بِها مِنْ
أَعْظَمِ ما يَصْرِفُ عَنْ الطاعَةِ. وَبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّها مَتاعٌ زائِلٌ،
وَأَنَّ الاِنْشِغالَ بِه، إِنَّما هُوَ انْشِغالٌ بِمَا لَا يَجْنِي مِنْهُ
العَبْدُ إلَّا الحَسْرَةَ والخَسَارَةَ، مَا لَمْ تَكُنْ وَسِيلَةً إلَى مَا
يُقَرِّبُ إلى اللهِ. فَإِنَّ مَثَلَ هذِهِ الحياةِ الدنيا، كَمَثَلِ الْمَطَرِ،
يَنْزِلُ عَلَى الأَرْضِ، فَيَخْتَلِطُ نَباتُها، تُنْبِتُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ، فَبَيْنَا زَهْرَتُها تَسَرُّ الناظِرِينَ، وَتُفْرِحُ الْمُتَفَرِّجِينَ،
وَتَأْخُذُ بِعُيون الغافِلِينَ، إذْ بَدَأَ النَّقْصُ فِيها، فَتَصْفَرُ، ثُمَّ
تَكُونُ حُطامًا وَهَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ، فَيَذْهَبُ ذلكَ النباتُ الناضِرُ،
والزَّهَرُ الزاهِرُ، وَالْمَنْظَرُ البَهِيُّ، فَتُصْبِحُ الأرضُ غَبْرَاءَ
تُرابًا، قَدْ انْحَرَف عَنْها النَظَرُ، وَصَدَفَ عَنْها البَصَرُ، وَأَوْحَشَتْ
القَلْبَ. كَذَلِكَ هذِهِ الدنيا، بَيْنَمَا صاحِبُها قَدْ أُعْجِبَ بِشَبابِهِ،
وَفاقَ فِيها عَلَى أَقْرانِهِ وَأَتْرابِهِ، وَحَصَّلَ دِرْهَمَهَا وَدِينارَها،
وَاقْتَطَفَ مِنْ لَذَّتِه أَزْهارَها، وَخاضَ فِي الشَّهَواتِ فِي جَمِيعِ
أوقاتِهِ، وَظَنَّ أَنَّه لَا يَزالُ فِيها سائِرَ أَيَّامِهِ. إذْ أصابَهُ الْمَوْتُ
أَوْ التَّلَفُ لِمالِه، فَذَهَبَ عَنْهُ سُرُورُه، وَزَالَتْ لَذَّتُهُ
وَحُبُورُه، وَاسْتَوْحَشَ قَلْبُهُ مِنْ الآلامِ، وَفَارَقَ شَبَابَه وَقُوَّتَه
وَمالَه، وانْفَرَدَ بِأَعمالِهِ الصالِحَةِ أَوْ السَّيِّئَةِ. هُنَالِكَ يَعَضُّ الظالِمُ عَلَى يَدَيْهِ،
حِينَ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ ما هُوَ عَلَيْه، وَيَتَمَنَّى العَوْدَ إلى الدنيا. لَا
لِيَسْتَكمِلَ الشَّهَواتِ، بَلْ لِيَسْتَدْرِكَ ما فَاتَ، بِالتَّوْبَةِ
والأعمالِ الصالِحاتِ. فالعاقِلُ
الحازِمُ الْمُوَفَّقُ، يَعْرِضُ عَلَى نَفْسِهِ هذه الحالَةَ، وَيَقُولُ
لِنَفْسِهِ: قَدِّرِي أَنَّكِ قَدْ مُتِّ، وَلَابُدَّ أَنْ تَمُوتِي، فَأَيُّ:
الحالَتَيْنِ تَخْتارِينَ؟ أَتَخْتارِينَ الدنيا دارَ الأَكْدارِ،
وَالتَمَتعَ بِها كَتَمَتُّعِ الأنعامِ السَّارِحَةِ؟ أَمْ الجَنَّةَ التي فِيها
مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ؟ الجَنَّةُ، دارُ الْمُتقين، وما
فِيها مِنْ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الذي لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ، وَأَعْظَمُهُ
رُؤْيَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِيها مَا لَذَّ وَطابَ مِن الطعامِ والشَّرَابِ،
وَفِيها حُورٌ عِينٌ جَمَالُهُنَّ يُبْهِرُ العُقُولَ وَيَفُوقُ الخَيَالَ، لَا
يَسْتَطِيعُ الْمؤمِنُ وَصْفَهُنَّ مَهْمَا سَعَى إلى ذلك سَبِيلاً، وَيُعْطَى
العَبْدُ قُوَّةَ مِائَةَ رَجُلٍ في الجَماعِ. وَفِيها بَحْرُ اللَّبَنِ وَبَحْرُ
الخَمْرِ وَبَحْرُ العَسَلِ وَبَحْرُ الماءِ. لَا يَمُوتُ أَهْلُها، وَلَا
يَنامُونَ، وَلَا يَمَلُّونَ، وَلَا يَحْزَنُونَ، وَلَا يَتَحاسَدُونَ، وَلَا
يَتَبَاغَضُونَ، وَلَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ.
بِناؤُها لَبِنَةٌ مِن ذَهَبٍ ولَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَسِيقَانُ أشجارِها مِنْ
ذَهَبٍ. طِينَتُها الْمِسْكُ وَحَصْباؤُها اللُّؤْلُؤُ. وَيُغْنِي عن هذا الوَصْفِ كُلِّهِ قَوْلُ اللهِ تَعالَى فِي
الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: ( أَعْدَدْتُ
لِعِبادِيَ الصالِحِينَ مَالَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ
عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ). واللهِ لَوْ لَمْ يَرِدْ فِي وَصْفِ الجَنَّةِ إلَّا
هذا الحديثُ لَكانَ كافِيًا فِي التَّشْوِيقِ إِلَيْها والاجْتِهادِ فِي طَلَبِها. بِهذِهِ المُقارَنَةِ يُعْرَفُ تَوْفِيقُ
العَبْدُ مِن خُذْلانِه. فَقَدْ
أَخْبَرَ تَعالَى أَنَّ الْمالَ والبَنِينَ، زِينَةُ الحَياةِ الدنيا، وَلَكِنَّ
الإقْبالَ عَلَى اللهِ وَجَمْعَ الحَسَناتِ، خَيْرٌ مِنْ اشْتِغالِكُمْ بِهِمْ،
وَالشَّفَقَةِ الْمُفْرِطَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِن الشَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ
مَطْلُوبَةٌ، وَالقِيامَ بِشُؤُونِهِمْ مَطْلُوبٌ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ
يُشْغِلَكُمْ عَنْ الأَهَمِّ، أَلَا وَهُوَ الباقِياتُ الصالِحاتُ. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الخطبة
الثانية الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً
كثيراً . أَمّا بَعدُ عِبادَ
اللهِ: إذا عَظُمَتْ قِيمَةُ العَمَلِ الصالِحِ فِي قَلْبِ العَبْدِ، هانَتْ
الدُّنْيا عِنْدَه وَصَغُرَتْ، فَإِنَّ أَيَّ عَمَلٍ صالِحٍ يَتَقَرَّبُ بِهِ
العَبْدُ حَتَى لَوْ كانَ نَافِلَةً، خَيْرٌ مِن الدنيا وَمَا فِيها. مَرَّ
النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم بِقَبْرٍ فَقالَ: ( مَنْ
صاحِبُ هَذَا القَبْرَ؟ ) ، فَقالُوا فُلانٌ، فَقالَ: ( رَكْعتَانِ أَحَبُّ إلى هذا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْياكُم
). فَأَيْنَ مِنْ أَلْهَتْهُ دُنياهُ عَنْ صَلَاتِهِ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ؟ وَعَنْ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كانَ رَجُلانِ أَخَوَانِ،
فَهَلَكَ أَحَدُهُما قَبْلَ صاحِبِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَذَكَرْتُ
فَضِيلَةَ الأَوَّلِ مِنْهُمَا عِنْدَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، فقالَ
رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( أَلَمْ يَكُنْ
الآخَرُ مُسْلِمًا؟ ) قالُوا: بَلَى وَكَانَ لَا بَأْسَ بِهِ. فَقَال رسولُ
اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( وَمَا يُدْرِيكُمْ مَا
بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُه؟ إِنَّمَا مَثَلُ الصلاةِ كَمَثَلِ نَهْرٍ عَذْبٍ غَمْرٍ
بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَقْتَحِمُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا
تَرَوْنَ فِي ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا
بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُه ). فَاتَّقُوا
اللهَ وَلَا تُلْهِيَنَّكُم الدنيا عَنْ الأَمْرِ الذي خُلِقْتُمْ لَه. اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى
ذِكْرِكَ وشَكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، اللهُمَّ لَا تَجْعَلْ الدنيا أكبرَ
هَمِّنَا، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولَا تُسَلِّطْ عَلَيْنا مَنْ لَا يرْحَمُنا،
اللهُمَّ خّلِّصْنا من حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا في الحلالِ من رزقِك، وتوفَّنَا
مسلمين وألحقْنا بالصالحين، اللهُمَّ أصلحْ قلوبَنا وأعمالَنا وأحوالَنا، اللهُمَّ
أصلحْ أحوالَ المسلمين، اللهُمَّ اجمعْ كلمةَ المسلمين على كتابِك وسنَّةِ نبيِّك
محمدٍ صلى الله عليه وسلم، اللهُمَّ اجعلْ كلمتَهم واحدةً ورايتَهم واحدةً،
واجعلْهم يداً واحدةً وقوةً واحدةً على من سُواهم، ولا تجعلْ لأعدائِهم مِنَّةً
عليهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ احقنْ دماءَ المسلمين، اللهُمَّ احقنْ دماءَ
المسلمين، اللهُمَّ انصر المجاهدين في سبيلِك في كلِّ مكان، اللهُمَّ عليك
بالكفرةِ والملحدينَ الذين يَصُدُّون عن دينِك ويقاتِلونَ عبادَك المؤمنين، اللهُمَّ
عليك بهم فإنَّهم لا يعجزُونَك، اللهُمَّ زَلْزلِ الأرضَ مْنْ تحتِ أقدامِهم،
اللهُمَّ سَلِّطْ عليهم مَنْ يسومُهم سُوءَ العذابِ وَاجعلْهُم غَنِيمةً سَائغةً للمؤمنين يا قويُّ يا متينُ، اللهُمَّ
احفظْ بلادَنا من كيدِ الكائدين وعدوانِ المعتدين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مما
يكيدُ لها، اللهُمَّ احفظْ لهذه البلادِ دينَها وعقيدتَها وأمنَها وعزتَها
وسيادتَها، وأصلحْ أهلَها وحكَّامَها يا أرحمَ الراحمين، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ
الدعواتِ. ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾. وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|