بعنوان
موعظة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:- عباد الله:
اتقوا الله تعالى وأطيعوه وآمنوا برسوله واتبعوه, واعلموا أن الدنيا دار ممر, وأن مردنا إلى الله, ثم توفى كل نفس ما كسبت, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر. ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ).
عباد الله: إن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة, ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى فيها كافرا شربة ماء. والعبد الكيِّس الحريص على مصلحته, يستحيل أن يركن إلى الدنيا مهما رأى فيها من المغريات, لعلمه أنها متاع زائل, ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا). روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا ، من أهل النار ، يوم القيامة . فيصبغ في النار صبغة . ثم يقال : يا ابن آدم ! هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا . والله ! يا رب ! ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا ، من أهل الجنة . فيصبغ صبغة في الجنة . فيقال له : يا ابن آدم ! هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا . والله ! يا رب ! ما مر بي بؤس قط . ولا رأيت شدة قط ).
يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار: أي أنه لا يوجد أحد من أهل الدنيا مثله، منذ أن خلقت الدنيا إلى قيام الساعة, لا يوجد أحد مثله في الثراء والنعيم والترف وتحقيق الرغبات والشهوات والملذات. ثم يُصبغ في النار صبغة ـ لحظة يسيرة وثوان قليلة ـ ثم يُسأل بعد هذه الصبغة, ( هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ ) فينسى كل ذلك النعيم الذي كان فيه, ويؤكد ذلك بالحلف, فيقول: لا والله يا رب. نسي الأموال, نسي القصور, نسي المراكب الفارهة, والمآكل والمشارب الهنية, واللباس الناعم, والمتعة والملذات والشهوات, والجاه والمكانة. ذهب ذلك كله كأنه لم يكن, مقابل غمسة في نار جهنم. فإلى الله نشكو ما نحن فيه من قسوة في قلوبنا. يدخل عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراه مضطجعا على حصير ما بينه وبينه شيء ، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ، فيرى أثر الحصير في جنبه فيبكي ، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يبكيك ) . فيقول عمر : يا رسول الله ، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت رسول الله ، فقال : ( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( يؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة ): لا يوجد أحد من أهل الدنيا منذ أن خلقت إلى قيام الساعة أبأس منه. ـ إبتلاءات متعدده ـ أمراض وفقر ومحن. لكنه صابر محتسب. لم يحمله فقره على اللجوء إلى الحرام, لعلمه أن الدنيا أيام قليله ومتاع زائل. ولم يحمله مرضه على الجزع والتسخط أو التداوي بالحرام, ولم يحمله حرمانه من متع الدنيا على التخلي عن دينه وأمانته وعفته ونزاهته. ثم يغمس غمسة في الجنة, ثم يقال له: ( هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟)، فينسى كل ذلك البوس حتى كأنه لم يكن, ويؤكد ذلك بالحلف: ( لا والله).
فينبغى للمؤمن أن يستشعر ذلك جيدا وأن لا يؤثر الدنيا على الآخرة, بل يجعلها مطية له إلى الفوز برضوان الله والجنة, وإن تمتع بشيء منها فليتمتع بما أباح الله, فإن فيما أبحه الله غنية عن الحرام ولله الحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:-
عباد الله: إن فتور القلب له أسبابٌ كثيرة, ومن أعظم أسبابه: الركون إلى الدنيا والغفلة عن حقيقتها وحقارتها, والغفلة أيضاً عن الموت وما بعده والجنة والنار. وقد بين الله تعالى في كتابه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في سنته أن العبد لا يقبل على الله تعالى وعلى طاعته ويتقيه حق تقواه إلا إذا كانت الآخرة همه. ألا ترون أن الله تعالى ربط ذلك بتذكر اليوم الآخر؟ فقد بين الله تعالى أنه لا يحافظ على الصلاة إلا من تذكر الموت وما بعده, قال تعالى: ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ) فكل من قصر في هذه العبادة فليعلم أن إيمانه باليوم الآخر ضعيف. وقال تعالى في شأن التمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ). فكل من قصر في التمسك بالسنة فليعلم أن إيمانه باليوم الآخر ضعيف. وقال صلى الله عليه وسلم في شأن حفظ اللسان : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ). فكل من تكلم فيما يسخط الله من كذب أوغيبة أوسخرية أوسب أو قذف أو إصدار شائعات أو غير ذلك مما يسخط الله فليعلم أن إيمانه باليوم الآخر ضعيف. مما يدل على أن العبد يستحيل أن يُقْبِلَ على الله كما ينبغي وينْكَفَّ عن معصية الله إلا إذا تعلق قلبه باليوم الآخرـ بالموت وما بعده ـ
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا يا ذا الجلال والإكرام |