الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
عباد الله:
لقد تكلمنا فيما سبق عن الخوف وأهميته فانه من أعظم مقامات الدين ولما كان الخوف من الله بهذه المثابة
ناسب ذكر بعض الأمور التي يُستجلب بها الخوف:
أولها : تدبُّرُ كلامِ الله تعالى,
فإن تدبر كلام الله تعالى يثمر الخوف بلا ريب ، بل ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن, وإطالة التأمل وجمع الفكر على معاني آياته ، وقد بين الله عز وجل أن لآياته المجيدة أعظم أثر في تخويف القلوب من باريها وتحذيرها من سطوا ته فقال سبحانه: ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ) قال السعدي رحمه الله بعد أن وصف عظمة القرآن وشدة حاجة القلوب إلى تكرار معانيه عليها : " ولما كان القرآن بهذه ألجلاله والعظمة أثر في قلوب أولي الألباب المهتدين ، فلهذا قال تعالى: ( تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ) لما فيه من التخويف والترهيب المزعج ".
ثانياً : التفكر في عظمة الله تعالى,
فإن من تفكر في ذلك خاف من الله تعالى لا محالة, لأن الفكر يوقعه على صفات جلال الله وكبريائه فهو سبحانه القوي المتين والعزيز الكريم والكبير المتعال والواحد القهار والسيد الصمد والحميد المجيد والجبار المتكبر والقادر ذو العرش المجيد الفعال لما يريد ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة .
ومن قرأ القرآن وقرأ الآيات الدالة على عظمة الله عرف ذلك ، كما في آية الكرسي و آخر سورة الحشر وسورة الإخلاص وغير ذلك.
ثالثاً : التفكر في مخلوقات الله وعظمتها كخلق السماوات والأرض والجبال ومن ذلك التأمل في حال الملائكة مع ربها
كما قال صلى الله عليه وسلم: ( أُذن لي أن أُحدث عن أحد حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعنقه مثنية تحت العرش وهو يقول سبحانك ما أعظمك ربنا ) رواه الحاكم وأصله في سنن أبي داود عن أنس .
وقال صلى الله عليه وسلم ( أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا ملك ساجد لله أو قائم ) رواه ابن ماجة.
رابعاً : التفكر في الموت وشدته وأنه لا مهرب منه ولا موعد له ،
لا يأتي في الصيف دون الشتاء فيؤمن في الشتاء ولا في الشتاء دون الصيف فيؤمن في الصيف ، ولا في الليل دون النهار فيؤمن في النهار ، ولا في السقم دون الصحة فيؤمن في الصحة. الموت الذي لا يعرف الصغير ولا الكبير ولا الأمير ولا الحقير. الموت يا عبد الله: قد يأتيك قبل أن تعرف عظمة الله تعالى وقبل أن تأنس بذكره وقبل أن تعرف معاني أسمائه وصفاته وقدر رضاه وعظيم حقه, وقبل ذوق حلاوة الإيمان به سبحانه ، بل قد يأتيك الموت وأنت اغفل ما تكون عن ربك ومولاك غارقاً في المعاصي منشغلاً بها . وعندها يا حسرة عليك حيث اشتبكت عليك الشدائد وأحاطت بك أهوالها . شدة مفارقة محابك من الدنيا والمعاصي ، وشدة الموت وسكراته ، وشدة ما أنت قادم عليه من عذاب القبر وما بعده.
فأَعْظِمْ بشدائد وأهوال ونكبات ، لو حاولْت دفع بعضها بمجموع ندم النادمين لما تُقُبِّلَ منك, والحال كما قيل : ذهَبَت الحِيَل فلا حيلة. ( كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق * وظن انه الفراق * والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ المساق ) إنها لحظة الموت : أخر يوم من الدنيا.( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد )، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت ) رواه الترمذي ويقول أيضاً: ( أذكر الموت في صلاتك . فان الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسن صلاته ، وصلِّ صلاة رجل لا يظن أنه يصلي صلاةً غيرها ، وإياك وكل أمر يُعْتَذَرُ منه ) رواه الديلمي . وقال صلى الله عليه وسلم: ( أتاني جبريل فقال: يا محمد عش ما شئت فانك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فانك مجزي به ، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزه استغناؤه عن الناس ) رواه البيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
فاتقوا الله يا عباد الله وأكثروا من ذكر الموت الذِّكرَ الذي يجعلكم تقبلون على طاعة الله وتنتهون عن معصيته .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكّر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد :-
ومن الأسباب التي يُستجلَب بها الخوف :
التفكر في القبر وعذابه وهواه وفضاعته ،
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ، ثم قال: ( يا خواني لمثل هذا فأعدوا ) رواه احمد وابن ماجه.
والأسباب التي يستجلب بها الخوف غير ما ذكر كثيرة فمنها:
التفكر في القيامة وأهوالها, والنار وشدة عذابها,
ومن ذلك: تفكر العبد في ذنوبه,
ومن ذلك:
أن يعلم العبد أنه يحال بينه وبين التوبة بموت مفاجئ, أو فتنة مضلة, أو غفلة مستمرة, أو تسويف وإصرار إلى الموت, أو غير ذلك من الشهوات والشبهات ،
ومن ذلك:
صحبة الصالحين ومجالسة علماء الآخرة وأولياء الله المتقين ، ومن ذلك سماع المواعظ ، وهي كثيرة يا عباد الله ذكرها أهل العلم في كتبهم .
ثم اعلموا يا عباد الله أن ما ذكرناه من الأمور الجالبة للخوف ترجع كلها للعلم بالله وبشرعه ومعرفة هدي رسوله صلى الله عليه وسلم . فان العلم بذلك أعظم الأسباب الجالبة للخوف من الله ، إذا طلبه العبد خالصاً لوجه الله قال تعالى: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) قال بعض أهل العلم: من لم يعرف الله حق معرفته لم يهبه حق مهابته ولم يعظمه حق تعظيمه وحرمته .
فبالعلم يعرفه ويعظمه ويهابه ، فصار العلم يثمر الطاعات كلها ويحجز عن المعصية كلها بتوفيق الله.
اللهم فقهنا في دينك، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا ذا الجلال والإكرام. اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل .
|