الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:- عباد الله:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله ما خلقنا ولا رزقنا إلا من أجل عبادته، ونصرة دينه.
روى أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقول: ( إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه شيء حتى ترجعوا إلى دينكم ).
والعِينة: هي أن يبيع شخص سلعة على آخر بثمن مؤجل ثم يشتريها منه بثمن حال أنقص من ثمن البيع. وقوله: ( وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع ): كناية عن الاشتغال بالحرث والزراعة وتثمير المال عن أمور الدين والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى دينه.
ففي هذا الحديث فوائد مهمة لا بد من بيانها:
أولها: تحريم الركون إلى الدنيا والانشغال بها عن أمور الدين التي من أعظمها الجهاد في سبيل الله تعالى، الذي هو ذروة سنام الإسلام، لأن ذلك من أسباب حب الدنيا وكراهية الموت وضعف الدين في النفوس، وإن كان الجهاد له شروط وضوابط فلا يُفتي به كل أحد، ولا يجوز أن يتبناه كل أحد، ومرده إلى ولاة الأمور من العلماء والأمراء.
ثانياً: أن المسلمين إذا انشغلوا بالزراعة ورضوا بها وانشغلوا بجمع الأموال عن الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى دين الله تعالى، فإن الله يُجازيهم بالذل والهوان على أعدائهم فيكونوا مُستعمرين مُهانين أذلاء، جزاءً لهم على إعراضهم عن دينهم الذي فيه عزتهم وفيه منعتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وإن كان الزرع والبيع والشراء والحرص على تحصيل المسكن والمركب جائزاً، لكن لا يجوز أن يكون شاغلاً عن الأمر الذي خُلقنا من أجله.
والذي ينظر إلى حالنا اليوم، يجد الكثير منّا شغلهم الشاغل هو إصلاح أمر الدنيا، كيف نجمع المال؟ وكيف نثمِّر الرصيد؟ وكيف نبني بيتاً مزوقاً؟ ومتى نركب سيارة فخمة جديدة؟ ومتى نحقق أمانينا وأحلامنا الدنيوية؟ أما أمور الآخرة فنصيبها قليل، والتفكير فيها قليل، وإذا كان الانشغال بالزراعة وجمع المال عن الدين محرماً فكيف بالانشغال بالشهوات والأمور المحرمة؟ وإذا كان تسلط الأعداء على المسلمين يحصل بسبب الانشغال بالأمور المباحة عن الجهاد والدعوة، فكيف إذا كان انشغالهم عن ذلك بالشهوات والأمور المحرمة؟
لا شك أن تسلط الأعداء عليهم يكون من باب أولى.
واسمعوا إلى ما ذكره أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة ).
قال رضي الله عنه: " نزلت هذه الآية فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونُصرنا، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نجياً، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره، حتى فشا الإسلام وكثُر أهله، وكنّا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا، فنقيم فيهم، فنزلت فينا: ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة )، فكانت التهلكة، الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد " رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
ثالثاً: في هذا الحديث أن الوعيد المذكور في الحديث تحقق،
فالمسلمون اليوم يُمثلون ثلث المعمورة كثرةً، فعندهم الثروة البشرية والثروة الاقتصادية والمساحات الزراعية والعمرانية، وبلادهم وثرواتهم أفضل وأحسن بلاد العالم، ومع ذلك لما حصل الإعراض، سلط الله عليهم أعداءهم فأهانوهم وأذلوهم، وصدق الله إذْ يقول: ( وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ). وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( وجُعل الذلة والصغار على مَنْ خالف أمري).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: عباد الله:
رابعاً من فوائد هذا الحديث العظيم: أنه ليس للمسلمين طريق إلى عزتهم، ولا إلى سيادتهم، ولا إلى سعادتهم في دنياهم وأخرتهم، إلا بهذا الدين لقوله: ( سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه شيء حتى ترجعا إلى دينكم )، فالرجوع إلى هذا الدين وتطبيقه والدعوة إليه هو الخطوة الأولى التي يحصل بها النصر الموعود لأن طلب النصر بلا دين مستحيل، قال الله تعالى: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً )، فهذه هي العدة الإيمانية التي يستحيل أن يُمكّن للمسلمين بدونها حتى ولو كانوا أقوى شعوب العالم، وهي واجبة، ويعقبها واجب آخر يأتي بعدها لا قبلها ألا وهو عدة السلاح الكافي لقمع العدو والتدريب وإحياء روح الجهاد في نفوس المسلمين خصوصاً الشباب.
|