ما لكم
لا ترجون لله وقارا
مستفاد
من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله
الْحمد لله الذي وفَّق من شاءَ لعبادته، أحمده سبحانه وأشكره على جزيلِ فضلِه
ونِعمتِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له في ألوهيّته وربوبيّته،
وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آلِه
وصحبِه ومَن سار على نهجِ دَعوته وتمسّك بسنّته، أما بعد:-
فاتقوا الله تعالى واشكروه على نعمه، واعلموا أيها الناس أن الذكر نورٌ للذاكر
في الدنيا، ونورٌ له في قبره، ونورٌ له في معاده يسعى بين يديه على الصراط، فما
استنارت القلوب والقبور بِمثل ذكر الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ
نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ
بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ فالأول هو الْمؤمن استنار بالإيمان بالله ومحبته ومعرفته
وذكره، والآخر هو الغافل عن الله تعالى الْمعرض عن ذكره ومحبته، والشأن كل الشأن
والفلاح كل الفلاح في النور، والشقاء كل الشقاء في فواته.
ولك أن تتأمل يا عبد الله نور الله في قلب المؤمن وحاجة العبد إلى هذا النور
والذي أخبر به الله تعالى -كما تقدم- وأخبر عنه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بأن حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه
تعالى وتقدس، فهو يدبر أمر الممالك ويأمر وينهي، ويخلق ويرزق، ويميت ويحي، ويقضي
وينفذ , ويعز ويذل ويقلب الليل والنهار، ويداول الأيام بين الناس، ويقلب الدول
فيذهب بدولة ويأتي بأخرى، والرسل من الملائكة عليهم الصلاة والسلام بين صاعد إليه
بالأمر ونازل من عنده به، وأوامره ومراسيمه متعاقبة على تعاقب الآيات، نافذة بحسب
إرادته، فما شاء كما شاء في الوقت الذي يشاء على الوجه الذي يشاء، من غير زيادة
ولا نقصان ولا تقدم ولا تأخر، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها، وفي الأرض
وما عليها وما تحتها، وفي البحار والجو، وفي سائر أجزاء العالم وذراته، يقلبها ويصرفها
ويحدث فيها ما يشاء، وقد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء
رحمة وحكمة، ووسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه ولا تشتبه عليه.
بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على كثرة حاجاتها، لا يشغله سمع عن سمع ولا
تغلطه كثرة المسائل ولا يتبرم بإلحاح ذوي الحاجات، وأحاط بصره بجميع المرئيات فيرى
دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فالغيب عنده شهادة
والسر عنده علانية، يعلم السر وأخفى من السر، فالسر ما انطوى عليه ضمير العبد وخطر
بقلبه ولم تتحرك به شفتاه، وأخفى منه ما لم يخطر بعد فيعلم أنه سيخطر بقلبه كذا
وكذا في وقت كذا وكذا، له الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة،
وله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، له الملك كله وله الحمد كله وبيده الخير
كله وإليه يرجع الأمر كله، شملت قدرته كل شئ ووسعت رحمته كل شئ وسعت نعمته إلى كل
حي. ﴿ يَسْأَلُهُ مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ يغفر ذنباً، ويفرج
هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد
حيران، ويغيث لهفان، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً،
ويعافي مبتل، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً ويقصم جباراً، ويقيل
عثرة، ويستر عورة، ويؤمن روعة، ويرفع أقواماً ويضع آخرين، لا ينام ولا ينبغي له أن
ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل.
حجابه النور: لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلفه ويَمينه
ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم
يغض ما في يمينه. قلوب العباد وتواصيهم بيده، وأزمة الأمور معقودة بقضائه وقدره.
الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، يقبض سمواته كلها
بيده الكريمة والأرض باليد الأخرى، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أنا الملك، أنا
الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئاً، وأنا الذي أعيدها كما بدأتها، لا يتعاظمه ذنب أن
يغفره، ولا حاجة يسألها أن يعطيها.
لو أنّ أهل سمواته وأهل أرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى
قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو أن أول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم
كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، ولو أن أهل سمواته وأهل
أرضه وإنسهم وجنهم وحيهم وميتهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى
كلاً منهم ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، ولو أن أشجار الأرض كلها - من
حين وجدت إلى أن تنقضي الدنيا - أقلام، والبحر - وراءه سبعة أبحر تمده من بعده -
مداد، فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد لفنيت الأقلام ونفد المداد ولم تنقد كلمات
الخالق تبارك وتعالى، وكيف تفنى كلماته عز وجل جلاله وهي لا بداية لها ولا نهاية،
والمخلوق له بداية ونهاية فهو أحق بالفناء والنفاد؟ وكيف يفنى المخلوق غير
المخلوق؟
هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس دونه
شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، تبارك وتعالى أحق من ذكر، وأحق من عبد.
كل نقمه منه عدل، وكل نعمة منه فضل. عطاؤه كلام، وعذابه كلام ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ
كُن فَيَكُونُ ﴾ .
فإذا أشرقت على القلب أنوار هذه الصفات اضمحل عندها كل نور، ووراء هذا ما لا
يخطر بالبال ولا تناله عبارة. والْمقصود أن الذكر ينور القلب والوجه والأعضاء، وهو
نور العبد في دنياه وفي البرزخ وفي القيامة. وعلى حسب نور الإيمان في قلب العبد
تخرج أعماله وأقواله ولها نور وبرهان. والله تعالى المستعان وعليه الاتكال .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر
الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية:
الْحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه
ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:-
أيها الإخوة، فقد سمعتم بعض صفات الرب جل وعلا، أفبعد هذه الصفات العظيمة يخاف
العبد الفقر والله هو الغني!! أفبعد هذه الصفات العظيمة يخاف من مخلوقٍ مثله لا ينفع
ولا يضر إلا أن يأذن الله!!
وقد بين الله في كتابه العزيز موقف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في ذلك، يقِف كليمه موسى -عليه السلام- وجنودُه عند شاطئ البَحر فيقول بعضهم: إنّ فرعون من ورائنا والبحرَ من
أمامنا، فأين الْخَلاص؟! ﴿قَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾، فيَردّ
نبيّ الله موسى عليه السلام باستشعارٍ لعظمة الله وثِقة كاملةٍ بِموعود الله: ﴿إِنَّ
مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ﴾ ، فكان بعدَها النّصر والتّمكين.
فيا عباد الله مالكم لا ترجون لله وقاراً في قلوبكم ونفوسكم وأعمالكم . ونستغفر
الله ونتوب إليه من تفريطنا في جنب الله.
اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت،
خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نبوء
لك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت..
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما
أخرنا وما أعلنّا وما أسررنا وما أنت أعلمُ به منا أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت
على كل شيءٍ قدير، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل
علينا الغيث واجعل ما أنزلته قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أنت الله لا إله إلا
أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته قوةً ومتاعاً إلى
حين، اللهم أغثنا، غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، نافعاً غير ضار،
عاجلاً غير آجل، اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت،
اللهم أنزل علينا من السماء ماء مباركاً تُغيث به البلاد والعباد وتعُمَّ به
الحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق، اللهم أغثنا، اللهم
أغثنا، اللهم أغثنا اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد
من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|