الْمقتفى في الصبر على الأذى
الحمد لله الذي جعل الأخلاق من الدين، وأعلى بها شأن المؤمنين، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله الصادق
الأمين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى
أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى مَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:-
عباد الله: اتقوا الله تعالى حقّ تقواه، وزيّنوا قلوبكم وأعمالكم بتقواه،
وتزوّدوا بها ﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.
عباد الله: إن العبد المسلم عُرضة للابتلاء ، ومن الابتلاء الذي قد يُبتلى به
العبد ، الابتلاء بأذى الناس له. والأذى أنواع:
- أذى بالقول كالسب والغيبة – وثانيا أذى بالفعل كالضرب – وثالثاً أذى بالقول
والفعل معاً.
وأذى المسلمين -عباد الله- محرم بكل أنواعه سواء كان بالقول أو بالفعل أو بهما
معاً ، قال تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا
بهتاناً وإثماً مبيناً) قال ابن كثير رحمه الله: "وهذا هو البهت الكبير أَنْ
يُحْكَى أَوْ يُنْقَلَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ مَا لَمْ
يَفْعَلُوهُ، عَلَى سَبِيلِ الْعَيْبِ وَالتَّنَقُّصِ لَهُمْ".أهـ.
والبهتان أشد من الغيبة وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة
والسلام قال: (لا تؤذوا المسلمين) رواه الترمذي(٢٠٣٢) وحسنه الألباني، وهذا نهي عن
أذى المسلمين ، والنهي يقتضي التحريم.
عباد الله: إن الناس يتفاوتون في مقابلة الأذى الذي يأتيهم من الناس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في قاعدة في الصبر: الناس عند مقابلة
الأذى ثلاثة أقسام: 1- ظالم يأخذ فوق حقه
2-مقتصد يأخذ بقدر حقه. 3- محسن يعفو
ويترك حقه.أهـ
القسم الأول: الظالم ، وهو الذي يأخذ حقه وزيادة.
وظلم الناس –أيها الناس- محرم بشتى صوره ، جاء في الحديث عن أبي ذر رضي الله
عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا
عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) رواه مسلم(٢٥٧٧).
قال الحافظ النووي في شرح صحيح مسلم: قوله: (وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) أي
لا تتظالموا ، والمراد: لا يظلم بعضكم بعضاً ، وهذا توكيد لقوله (يا عبادي إني
حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) وزيادة تغليظ في تحريمه.أ هـ
والظلم ظلمات يوم القيامة: عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله عليه
الصلاة والسلام قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) رواه مسلم(٢٥٧٨)،
قال الحافظ النووي في شرح مسلم (٢٥٧٨): قال القاضي: قيل: هو على ظاهره فيكون ظلمات
على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة سبيلاً.أ هـ.
ويُخشى على من أخذ حقه وزيادة الوقوع في الفجور في الخصومة ، والفجور في الخصومة
محرم وهو من صفات أهل النفاق عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله عليه الصلاة والسلام: (أربع من كُن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كان فيه
خَلّة منهن كان فيه خَلة من نِفاق حتى يدعها) وذكر(وإذا خاصم فجر) رواه
البخاري(٣٤) ومسلم(٥٨) واللفظ له
القسم الثاني: مقتصد ، وهو الذي يأخذ بقدر حقه ، من غير زيادة.
قال تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، وقال تعالى:
(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عاقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)، وقال تعالى:
(وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين)، قال
السدي رحمه الله في قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) إذا شتمك بشتمه فاشتمه
مثلها من غير أن تعتدي).
-القسم الثالث: محسن ، وهو الذي يعفو ويترك حقه.
والعفو والصفح عن المسيء فعل ممدوح ومحمود مرغب فيه. قال تعالى: (وليعفوا
وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم)، وقال تعالى: (والكـٰظمين الغيظ والعافين عن
الناس والله يحب المحسنين)، وقال تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، قال
الإمام الطبري في تفسيره(٢١/٤٥٨): قوله تعالى"فمن عفا وأصلح فأجره على
الله"أي فمن عفا عمن أساء إليه إساءته إليه ، فغفرها له ولم يعاقبه بها ، وهو
على عقوبته عليها قادر ابتغاء وجه الله ، فأجر عفوه ذلك على الله ، والله مثيبه
عليه. أهـ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر
الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية:
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله
وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:-
وتكاثرت الأحاديث عن النبي عليه
الصلاة والسلام في الحث على العفو والترغيب فيه ، فمما روي في ذلك: عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما زاد الله عبداً
بعفو إلا عزاً) رواه مسلم (٢٥٨8)، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي عليه
الصلاة والسلام قال له: (يا عقبة بن عامر ، صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن
ظلمك) رواه أحمد (١٦٩٩٩)، وأودعه الألباني في الصحيحة(٨٩1).
عباد الله: ينبغي للعبد أن يقابل
الإساءة بالإحسان ، فإن مقابلة الإساءة بالإحسان من مكارم الأخلاق وأحسنها ، قال
تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) أي إذا أساء لك شخص بقول أو فعل فلا تقابل
الإساءة بمثلها وعليك بالعفو (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، قال ابن عباس رضي
الله عنه في قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن): "أمر الله المؤمنين بالصبر
عند الغضب والحلم والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع
لهم عدوهم كأنه ولي حميم"، رواه الطبري في تفسره(٢١/٤٧1).
ومقابلة الإساءة بالإحسان من صفات
النبي عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)،
قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في وصف النبي عليه الصلاة والسلام:
(ولا يدفع السيئة سيئة، ولكن يعفو ويغفر) رواه البخاري (2125)، وعن عائشة رضي الله
عنها قالت: (ولا يجزئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح) رواه الترمذي (٢٠١٦) وقال:
حديث حسن صحيح.
اللهم اجعلنا صابرين على طاعتك
صابرين عن معصيتك صابرين على أقدارك صابرين على أذى خلقك يا ذا الجلال والإكرام اللهم
وأعنا على كل خير ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم ارزقنا التحلي بالصبر
واجعلنا من الصابرين الشاكرين، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا
أنت، واصرف عنّا سيء الأخلاق لا يصرف عنّا سيئها إلا أنت، اللهم إنا نعوذ بك من
منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا
وزدنا علماً يا عليم. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن
طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا
بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من
ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا فى ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر
همنا، وﻻ مبلغ علمنا، وﻻ تسلّط علينا بذنوبنا من ﻻ يرحمنا ولا يخافك فينا يا أرحم
الراحمين.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما
أخرنا وما أعلنّا وما أسررنا وما أنت أعلمُ به منا أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت
على كل شيءٍ قدير، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل
علينا الغيث واجعل ما أنزلته قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أنت الله لا إله إلا
أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته قوةً ومتاعاً إلى
حين، اللهم أغثنا، غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سَحًّا غدقاً، نافعاً غير ضار،
عاجلاً غير آجل، اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت،
اللهم أنزل علينا من السماء ماء مباركاً تُغيث به البلاد والعباد وتعُمَّ به
الحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق، اللهم أغثنا، اللهم
أغثنا، اللهم أغثنا اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد
من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|