سلسلة
آيات وعظات (5)
لتركبن
طبقاً عن طبق
الحمد
لله الذي نوّر بالقرآن القلوب ، وأنزله في أوجزِ لفظ وأعجزِ أسلوب ، فأعيت بلاغته
البلغاء، وأعجزت حكمته الحكماء.. أحمده سبحانه وهو أهل الحمد والثناء ، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله المصطفى ، ونبيه المرتضى،
صلى الله عليه وعلى آله الأبرار وصحبه الأخيار، ما تعاقب الليل والنهار ، وسلم
تسليما كثيرا. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله
لعلكم ترحمون , وتأملوا في هذا القرآن المبارك ففيه الخير والطمأنينة والسعادة
وحياة القلوب فمن وفق لذلك فقد فاز فوزا عظيما.
أيها الناس آية مباركة
من الذكر الحكيم في سورة الانشقاق نقف معها في هذه الخطبة وهي قول الله تعالى: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } الخطاب هنا لجميع
الناس، أي لتتحولن حالاً عن حال، وهو يعني أن الأحوال تتغير فيشمل أحوال الزمان،
وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب:
فالأول: أحوال الزمان
تتنقل { وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُها بَينَ النَّاسِ } [آل عمران: 140]. فيوم يكون فيه السرور والانشراح
وانبساط النفس، ويوم آخر يكون بالعكس، حتى إن الإنسان ليشعر بهذا من غير أن يكون
هناك سبب معلوم وهذا شيء يعرفه كل واحد بنفسه تصبح اليوم فرحاً مسروراً وفي اليوم
الثاني بالعكس بدون سبب لكن هكذا لابد أن الإنسان يركب طبقاً عن طبق. وتتغير حال
الزمان من أمن إلى خوف، ومن حرب إلى سلم، ومن قحط إلى مطر، ومن جدب إلى خصب إلى
غير ذلك من تقلبات الأحوال..
الثاني: الأمكنة ينزل
الإنسان هذا اليوم منزلاً، وفي اليوم التالي منزلاً آخر، وثالثاً ورابعاً إلى أن
تنتهي به المنازل في الآخرة، وما قبل الآخرة وهي القبور هي منازل مؤقتة. القبور
ليست هي آخر المنازل بل هي مرحلة. وسمع أعرابي رجلاً يقرأ قول الله تعالى: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}
فقال الأعرابي: «والله ما الزائر بمقيم» فالأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور
شيئاً يكون المصير إليه، لأنه كما هو معلوم الزائر يزور ويمشي، وبه نعرف أن ما
نقرؤه أو نسمعه من بعض الناس «فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير» أن هذه الكلمة
غلط كبير ومدلولها كفر بالله عز وجل كفر باليوم الآخر، لأنك إذا جعلت القبر هو
المثوى الأخير فهذا يعني أنه ليس بعده شيء، والذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير
وليس بعده مثوى، كافر، فالمثوى الأخير إما جنة وإما نار.
الثالث: الأبدان يركب
الإنسان فيها طبقاً عن طبق واستمع إلى قول الله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ
بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [الروم: 54]. أول ما يخلق
الإنسان طفلاً صغيراً يمكن أن تجمع يديه ورجليه بيد واحدة منك وتحمله بهذه اليد
ضعيفًا، ثم لايزال يقوى رويداً رويداً حتى يكون شاباً جلداً قوياً، ثم إذا استكمل
القوة عاد فرجع إلى الضعف، وقد شبه بعض العلماء حال البدن بحال القمر يبدو هلالاً
ضعيفاً، ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يمتلئ نوراً، ثم يعود ينقص شيئاً فشيئاً حتى
يضمحل، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
بارك
الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم،
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمد
لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله
الأولين والآخرين، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله النبي الأمين، اللهم صل
وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء المرسلين وآله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا
عباد الله :-
الرابع مما يدخل ضمن
الآية: حال القلوب وما أدراك ما أحوال القلوب؟! أحوال القلوب هي النعمة وهي
النقمة، والقلوب كل قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ، فإن
شاء أزاغه وإن شاء هداه، ولما حدّث النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث قال:
«اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» رواه الترمذي ، فالقلوب لها أحوال عجيبة،
فتارة يتعلق القلب بالدنيا، وتارة يتعلق بشيء من الدنيا، وتارة يتعلق بالمال ويكون
المال أكبر همه، وتارة يتعلق بالنساء وتكون النساء أكبر همه، وتارة يتعلق بالقصور
والمنازل ويكون ذلك أكبر همه، وتارة يتعلق بالمركوبات والسيارات ويكون ذلك أكبر
همه، وتارة يكون مع الله عز وجل، دائماً مع الله يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويرى
أن الدنيا كلها وسيلة إلى عبادة الله، وطاعتة، فيستخدم الدنيا من أجل تحقيق
العبودية لله عز وجل؛ لأنها خلقت له ولا تستخدمه الدنيا. وهذه أعلى الأحوال وأصحاب
الدنيا هم الذين يخدمونها، هم الذين أتعبوا أنفسهم في تحصيلها. لكن أصحاب الآخرة
هم الذين استخدموا الدنيا وخدمتهم الدنيا، ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضى
الله، ولا يصرفونها إلا في رضى الله عز وجل، فاستخدموها أخذاً وصرفاً، لكن أصحاب
الدنيا الذين تعبوا بها سهروا الليالي يراجعون الدفاتر، يراجعون الشيكات، يراجعون
المصروفات، يراجعون المدفوعات، يراجعون ما أخذوا وما صرفوا، هؤلاء في الحقيقة
استخدمتهم الدنيا ولم يستخدموها، لكن الرجل المطمئن الذي جعل الله رزقه كفافاً
يستغني به عن الناس، ولا يشقى به عن طاعة الله، هذا هو الذي خدمته الدنيا، هذه
أحوال القلوب، وأحوال القلوب هي أعظم الأحوال الأربع، ولهذا يجب علينا جميعاً أن
نراجع قلوبنا كل ساعة كل لحظة أين صرفت أيها القلب؟ أين ذهبت؟ لماذا تنصرف عن الله؟
لماذا تلتفت يميناً وشمالاً؟، لأن القلوب تركب طبقاً عن طبق.
فاللهم
يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم
أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا
علمنا يا أرحم الراحمين. اللهم
إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر
والعزيمة على الرشد ونسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ونسألك شكر نعمتك وحسن
عبادتك ونسألك قلبا سليما ولسانا صادقا ونسألك من خير ما تعلم ونعوذ بك من شر ما
تعلم ونستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك،
وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك
الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم أقل عثرات المسلمين وردهم إليك رداً
جميلاً، اللهم اجمع كلمتهم على الحق والهدى وألّف بين قلوبهم ووحد صفوفهم وارزقهم
العمل بكتابك وسنة نبيك، وانتصر لعبادك المستضعفين في كل مكان، اللهم واحقن دمائهم
وصن أعراضهم وتولّ أمرهم وسدد رميهم وعجّل بنصرهم وفرّج كربهم وانصرهم على القوم
الظالمين، اللهم نسألك رحمة تهد بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا وتلُمّ بها شعثنا
وترُدّ بها الفتن عنا. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار،
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا
تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا
طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر
والباد يا ذا الجلال والإكرام .اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين ..
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ الوليد بن سالم الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|