حلاوة الإيمان
أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r:
«ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ
يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا
يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».
حَدِيثٌ عَظِيمٌ يُبَيِّنُ مَعْنَى الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ؛
إِذِ الإِيمَانُ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ
فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْجَوَارِحُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَبَّرَ
بِالْحَلَاوَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ شَبَّهَ الْإِيمَانَ بِالشَّجَرَةِ فِي قَوْلِهِ:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:
24]. وَالشَّجَرَةُ لَهَا ثَمَرَةٌ،
وَالثَّمَرَةُ لَهَا حَلَاوَةٌ، فَكَذَلِكَ شَجَرَةُ الْإِيمَانِ لَا بُدَّ لَهَا
مِنْ ثَمَرَةٍ، وَلَا بُدَّ لِتِلْكَ الثَّمَرَةِ مِنْ حَلَاوَةٍ. لَكِنْ قَدْ
يَجِدُهَا الْمُؤْمِنُ وَقَدْ لَا يَجِدُهَا، وَمِنْهَا مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ:
فَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ عِنْدَ
الْعَبْدِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا حُبًّا قَلْبِيًّا، فَيَمِيلُ
بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ حَتَّى يَكُونَ وَحْدَهُ مَحْبُوبَهُ
وَمَعْبُودَهُ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ مَنْ سِوَاهَ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ كَمَحَبَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالصَّالِحِينَ.
فَحَلَاوَةُ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلَّذَّةِ
وَالْفَرَحِ تَتْبَعُ كَمَالَ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ للهِ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ
أُمُورٍ: «تَكْمِيلُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَتَفْرِيعُهَا وَدَفْعُ ضِدِّهَا»:
فَتَكْمِيلُهَا: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ
إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا؛ فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللهِ وَرَسُولِهِ، لَا يُكْتَفَى
فِيهَا بِأَصْلِ الْحُبِّ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ
إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمِنْ تَفْرِيعِهَا وَتَكْمِيلِهَا: الْحُبُّ فِي
اللهِ، فَيُحِبُّ الْعَبْدُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ مِنَ الْأَعْمَالِ
وَالْأَشْخَاصِ، وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ مِنَ الْأَشْخَاصِ
وَالْأَعْمَالِ، وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُ، وَبِذَلِكَ
يَكْمُلُ إِيمَانُ الْعَبْدِ وَتَوْحِيدُهُ. وَدَفْعُ ضِدِّهَا: بِأَنْ يَكْرَهَ
مَا يَكْرَهُهُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ أَنْوَاعَ الْمَحَبَّةِ ثَلَاثَةٌ:
الْأَوَّلُ: مَحَبَّةُ اللهِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ
وَالتَّوْحِيدِ.
الثَّانِي: الْمَحَبَّةُ فِي اللهِ، وَهِيَ مَحَبَّةُ
أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ
مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذِهِ
تَابِعَةٌ لِمَحَبَّةِ اللهِ وَمُكَمِّلَةٌ لَهَا.
الثَّالِثُ: مَحَبَّةٌ مَعَ اللهِ، وَهِيَ مَحَبَّةُ
الْمُشْرِكِينَ لِآلِهَتِهِمْ وَأَنْدَادِهِمْ مِنْ شَجَرٍ وَحَجَرٍ وَبَشَرٍ
وَمَلَكٍ، وَغَيْرِهَا، وَهِيَ أَصْلُ الشِّرْكِ وَأَسَاسُهُ.
وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَأَنْ
يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ»، لَا يُحِبُّهُ مِنْ أَجْلِ طَمَعِ
دُنْيَا أَوْ عَرَضٍ عَاجِلٍ، وَإِنَّمَا يُحِبُّهُ للهِ؛ لِأَنَّهُ مُطِيعٌ للهِ،
لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ لِأَنَّهُ تَقِيٌّ. أَمَّا الَّذِي يُحِبُّ الشَّخْصَ مِنْ
أَجْلِ الدُّنْيَا، أَوْ مِنْ أَجْلِ الْأَطْمَاعِ أَوِ الشَّهَوَاتِ أَوِ
الْأَغْرَاضِ، فَهَذِهِ مَحَبَّةٌ لَا تَنْفَعُهُ عِنْدَ اللهِ شَيْئًا.
وَهَذَا فِيهِ فَضْلُ الْمَحَبَّةِ فِي اللهِ بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي
اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ
حَسَنٌ، وَمِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا
ِظلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: «رَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ
وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ»، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ رَجُلاً خَرَجَ
إِلَى قَرْيَةٍ لِيَزُورَ أَخًا لَهُ فِي اللهِ، فَأَرْصَدَ اللهُ عَلَى
مَدْرَجَتِهِ» أَيْ: طَرِيقِهِ «مَلَكًا» لِيَخْتَبِرَهُ، فَلَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ
«قَالَ لَهُ الْملَكُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا،
قَالَ: وَمَا غَرَضُكَ فِيهَا وَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: لِأَنَّ فِيهَا أَخًا لِي
فِي اللهِ أَحْبَبْتُ زِيَارَتَهُ، فَقَالَ لَهُ الْملَكُ: هَلْ لَهُ عَلَيْكَ
نِعْمَةٌ تَرُبُّهَا؟» يَعْنِي: هَلْ هُوَ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ وَأَنْتَ
تُحِبُّهُ مِنْ أَجْلِ صَنِيعِهِ مَعَكَ وَمَعْرُوفِهِ مَعَكَ؟ «قَالَ: لَا،
إِلاَّ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ» يَعْنِي: مَا زُرْتُهُ وَلَا خَرَجْتُ
إِلَيْهِ إِلاَّ لِأَنِّي أُحِبُّهُ فِي اللهِ، لَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَحْسَنَ
إِلَيَّ أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَعْطَانِي شَيْئًا أَوْ مَنَّ عَلَيَّ
بِشَيْءٍ، «فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ: أَنَّ اللهَ
قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ».
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَحَابُّونَ وَيَتَآلَفُونَ مِنْ
أَجْلِ أُمُورِ الدُّنْيَا، مِنْ أَجْلِ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
إِنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُ شَيْئًا أَحَبَّهُ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ لَا
يُحِبُّهُ، لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ مَزِيَّةٌ، إِنَّمَا الْمَزِيَّةُ أَنْ
تُحِبَّهُ لَا مِنْ أَجْلِ شَيْءٍ أَعْطَاكَ، وَإِنَّمَا تُحِبُّهُ مِنْ أَجْلِ
اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، هَذِهِ هِيَ الدَّرَجَةُ الْعَالِيَةُ الرَّفِيعَةُ مِنَ
الْمَحَبَّةِ فِي اللهِ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي يَجِدُ بِهَا الْعَبْدُ
حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: «وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ
أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ؛ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» كُلُّ
النَّاسِ يَنْفِرُونَ مِنَ النَّارِ - وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-؛ لِأَنَّهَا
مُؤْلِمَةٌ، وَلَا أَحَدَ يَصْبِرُ عَلَى حَرِّهَا، فَكُلٌّ يَفِرُّ مِنَ النَّارِ
وَيَبْتَعِدُ عَنْهَا، وَالْكُفْرُ نَارٌ، وَالْمُسْلِمُ الَّذِي مَنَّ اللهُ
عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْكُفْرِ، وَيَكْرَهُ
الرِّدَّةَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ،
هَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا، فَهَذَا الْحَدِيثُ مِيزَانٌ يَزِنُ الْعَبْدُ
بِهِ إِيمَانَهُ.
ثُمَّ
صَلُّوا وَسَلِّمُوا ....
ولـمزيد من خطب الشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |