استقامة القلب
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي عَلَّمَنَا مَا لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ
وَكَانَ فَضْلُهُ عَلَيْنَا عَظِيمًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ بَعَثَهُ اللهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ
وَسِرَاجًا مُنِيرًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا
كَرِيمًا.. أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ رَحِمَكُمُ اللهُ، وَاجْتَهِدُوا فِي إِصْلَاحِ
قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ.
أَيُّهَا النَّاسُ رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: أَنَّ
النَّبِيَّ r قَالَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ
إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».
وَهَذَا الْقَلْبُ شَدِيدُ التَّقَلُّبِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلِذَا
كَانَ لِزَامًا عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَاهَدَهُ وَيَطْلُبَ اسْتِقَامَتَهُ, وَاسْتِقَامَتُهُ
بِشَيْئَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى تَتَقَدَّمُ
عِنْدَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَحَابِّ، فَإِذَا تَعَارَضَ حُبُّ اللهِ وَحُبُّ غَيْرِهِ؛
سَبَقَ حُبُّ اللهِ تَعَالَى حُبَّ مَا سِوَاهُ، وَمَا أَسْهَلَ هَذِهِ بِالدَّعْوَى!
وَمَا أَصْعَبَهُ بِالْفِعْلَ! فَعِنْدَ الِامْتِحَانِ، يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ.
وَمَا أَكَثَرَ مَا يُقَدِّمُ الْعَبْدُ مَا يُحِبُّهُ هُوَ وَيَهْوَاهُ
أَوْ يُحِبُّهُ كَبِيرُهُ وَأَمِيرُهُ وَشَيْخُهُ وَأَهْلُهُ عَلَى مَا يُحِبُّهُ
اللهُ تَعَالَى! فَهَذَا لَمْ تَتَقَدَّمْ مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ
جَمِيعَ الْمَحَابِّ، وَلَا كَانَتْ هِيَ الْمَلِكَةَ الْمُؤَمَّرَةَ عَلَيْهَا، وَسُنَّةُ
اللهِ تَعَالَى فِيمَنْ هَذَا شَأْنُهُ أَنْ يُنَكِّدَ عَلَيْهِ مَحَابَّهُ وَيُنَغِّصَهَا
عَلَيْهِ، وَلَا يَنَالُ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا بِنَكَدٍ وَتَنْغِيصٍ، جَزَاءً لَهُ
عَلَى إِيثَارِ هَوَاهُ وَهَوَى مَنْ يُعَظِّمُهُ مِنَ الْخَلْقِ أَوْ يُحِبُّهُ عَلَى
مَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى.
وَقَدْ قَضَى اللهُ تَعَالى قَضَاءً لَا يُرَدُّ وَلَا يُدْفَعُ
أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا سِوَاهُ عُذِّبَ بِهِ وَلَا بُدَّ، وَأَنَّ مَنْ خَافَ
غَيْرَهُ سُلِّطَ عَلَيْهِ.
(الْأَمْرُ الثَّانِي) الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ الْقَلْبُ: تَعْظِيمُ
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ نَاشِئٌ عَنْ تَعْظِيمِ الْآمِرِ النَّاهِي، فَإِنَّ
اللهَ تَعَالَى ذَمَّ مَنْ لَا يُعَظِّمُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، قَالَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا} قَالُوا فِي تَفْسِيرِهَا:
مَا لَكُمْ لَا تَخَافُونَ للهِ تَعَالَى عَظَمَةً. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ
أَوَّلَ مَرَاتِبِ تَعْظِيمِ الْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ : تَعْظِيمُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ،
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْرِفُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرِسَالَتِهِ الَّتِي
أُرْسِلَ بِهَا رَسُولُ اللهِ r إِلَى كَافَّةِ النَّاسِ،
وَمُقْتَضَاهَا الِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَيَكُونُ بِحَسَبِ هَذَا
التَّعْظِيمِ مِنَ الْأَبْرَارِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ
وَصِحَّةِ الْعَقِيدَةِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ.
وَهُنَا مَلْحَظٌ عَظِيمٌ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ: فَإِنَّ
الرَّجُلَ قَدْ يَتَعَاطَى فِعْلَ الْأَمْرِ لِنَظَرِ الْخَلْقِ، وَطَلَبِ الْمَنْزِلَةِ
وَالْجَاهِ عِنْدَهُمْ، وَيَتَّقِي الْمَنَاهِيَ خَشْيَةَ سُقُوطِهِ مِنْ أَعْيُنِهِمْ،
وَخَشْيَةَ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنَ الْحُدُودِ الَّتِي رَتَّبَهَا
الشَّارِعُ r عَلَى الْمَنَاهِي، فَهَذَا
لَيْسَ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ صَادِرًا عَنْ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا
تَعْظِيمِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى
يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ فَيَا عِبَادَ اللهِ:
اعْلَمُوا أَنَّ عَلَامَةَ التَّعْظِيمِ لِلْأَوَامِرِ:
أَوَّلًا: رِعَايَةُ أَوْقَاتِهَا وَحُدُودِهَا، وَثَانِيًا: التَّفْتِيشُ
عَلَى أَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَكَمَالِهَا، وَثَالِثُهَا: الْحِرْصُ عَلَى تَحْسِينِهَا
فِي أَوْقَاتِهَا، وَالْمُسَارَعَةُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُجُوبِهَا، وَالْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ
وَالْأَسَفُ عِنْدَ فَوْتِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِهَا، كَمَنْ يَحْزَنُ عَلَى فَوْتِ
الْجَمَاعَةِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ تُقُبِّلَتْ
مِنْهُ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا فَإِنَّهُ قَدْ فَاتَهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ ضِعْفًا.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً يُعَانِي الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ تَفُوتُهُ
صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي بَلَدِهِ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ وَلَا مَشَقَّةٍ قِيمَتُهَا سَبْعَةٌ
وَعِشْرُونَ دِينَارًا لَأَكَلَ يَدَيْهِ نَدَمًا وَأَسَفًا، فَكَيْفَ وَكُلُّ ضِعْفٍ
مِمَّا تُضَاعَفُ بِهِ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ وَأَلْفِ أَلْفٍ وَمَا
شَاءَ اللهُ تَعَالَى. فَإِذَا فَوَّتَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ هَذَا الرِّبْحَ خَسِرَ
قَطْعًا، وَكَذَلِكَ إِذَا فَاتَهُ أَوَّلُ
الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى، أَوْ فَاتَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ
الَّذِي يُصَلِّي اللهُ وَمَلَائِكَتُهُ عَلَى مَيَامِنِهِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْعَبْدُ
فَضِيلَتَهُ لَجَالَدَ عَلَيْهِ وَلَكَانَتْ قُرْعَةً. وَكَذَلِكَ فَوَّتَ الْجَمْعَ
الْكَثِيرَ الَّذِي تُضَاعَفُ الصَّلَاةُ بِكَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ. وَكُلَّمَا كَثُرَ
الْجَمْعُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكُلَّمَا بَعُدَتْ الْخُطَا
كَانَتْ خُطْوَةً تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً.
وَكَذَلِكَ فَوَّتَ الْخُشُوعَ فِي الصَّلَاةِ وَحُضُورَ الْقَلْبِ
فِيهَا بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِي هُوَ رُوحُهَا وَلُبُّهَا،
فَصَلَاةٌ بِلَا خُشُوعٍ وَلَا حُضُورٍ كَبَدَنٍ مَيِّتٍ لَا رُوحَ فِيهِ، أَفَلَا
يَسْتَحِيِي الْعَبْدُ أَنَّ يَهْدِيَ إِلَى مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ عَبْدًا مَيِّتًا
أَوْ جَارِيَةً مَيِّتَةً؟!! فَمَا ظَنُّ هَذَا الْعَبْدِ أَنْ تَقَعَ تِلْكَ الْهَدِيَّةُ
مِمَّنْ قَصَدَهُ بِهَا مِنْ مَلِكٍ أَوْ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ؟ فَهَكَذَا سَوَاءً
الصَّلَاةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ وَجَمْعِ الْهِمَّةِ عَلَى
اللهِ تَعَالَى فِيهَا بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْعَبْدِ - أَوِ هَذِهِ الْأَمَةِ - الْمَيِّتِ
الَّذِي يُرِيدُ إِهْدَاءَهُ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ، وَلِهَذَا لَا يَقْبَلُهَا
اللهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَإِنْ أَسْقَطَتِ الْفَرْضَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَا
يُثِيبُهُ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ
مِنْهَا، كَمَا فِي السُّنَنِ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ
وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا نِصْفُهَا، إِلَّا ثُلُثُهَا، إِلَّا رُبْعُهَا، إِلَّا
خُمْسُهَا، حَتَّى بَلَغَ عُشْرَهَا» .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ سَائِرَ الْأَعْمَالِ تَجْرِي
هَذَا الْمَجْرَى، فَتَفَاضُلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِتَفَاضُلِ مَا
فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمَحَبَّةِ وَتَوَابِعِهَا.
ثُمَّ
صَلُّوا وَسَلِّمُوا ....
ولـمزيد من خطب الشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا: http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|