أول ثلاثة تسعر بهم نار جهنم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين
كفروا بربهم يعدلون ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ إله الأولين
والآخرين ، وخالق الخلق أجمعين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليله ،
وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه، ما ترك خيراً إلا دلَّ الأمة عليه ، ولا
شراً إلا حذّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى.
عباد
الله: ثلاثة أصنافٍ من الناس نبأهم غريب، وخبرهم عجيب
.. ثلاثةُ أشخاصٍ أعمالهم
الصالحة تفوقُ الجبال.. وهممهمُ العالية تناطحُ السحاب ..
الكلُ
يحسدهم على ما يفعلون .! والأغلبُ يغبَطُهُم على ما يصنعون
.!
فأولُ
الثلاثة: أغلبُ الآباءِ والأمهات يتمنون أن يكون أبناءهم مثله، ويرجون أن يحذوا
حذوه، وأن يقتدوا به وبمثاليته. إنّه قَارِئٌ القرآن وحافظُ كتابِ اللهِ تعالى.
أمّا
الرجلُ الثاني فهو رجلٌ قد أنعمَ اللهُ عليه بالمالِ الوفيرِ، فأمواله لاتُعد، وأملاكه
لا تُحصى، وثرواته يُصعبُ حصرها، قد فتحَ بيتَه للمحتاجِ والمسكينِ والفقيرِ
أمّا
ثالثُ الثلاثة فهو مجاهدٌ شُجاعٌ، وبطلٌ مقدام، لايهابُ الموت، ولايخشى المنيّه، ولا
يَعرفُ الخوفَ، ولا يعرف الخنوع او الاستسلام
عباد
الله: هل تأملتم هؤلاء الثلاثة وتأملتم أعمالهم الشريفة والعالية ولكن المصيبة
العظمى إذا كان عملهم بغير إخلاص - فإن الإخلاص لوجه الله هو الذي أضج النوم عن
السلف الصالح وهو الذي أبكى من أبكى منهم – فالمصيبىة العظمى في هؤلاء الثلاثة
(أنهم أول من تسعر بهم نار جهنم) فاسمعوا هذا الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي
الله عنه:
حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، أَنَّ اللَّهَ
-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى
الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ
يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ
مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا
عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟، قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ
وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ
الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ:
إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى
بِصَاحِبِ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى
لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا
عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟، قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ،
فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ،
وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ، فَقَدْ
قِيلَ ذَاكَ.
وَيُؤْتَى
بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا
قُتِلْتَ؟، فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى
قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ -تعالى- لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ
الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ:
فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.
ثُمَّ
ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- عَلَى رُكْبَتِي ، فَقَالَ : "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ
اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
فإنَّه واللهِ حديثٌ مخيفٌ تنخلعُ منه قلوبُ الصَّالحينَ.. أن
يَلِجَ هؤلاءِ النَّارَ قبلَ عُبَّادِ الأوثانِ والمُشركينَ.. ولكنَّها النِّيةَ
يا عبادَ اللهِ التي قالَ عنها سُفْيَانَ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي، إِنَّهَا
تَتَقَلَّبُ عَلَيَّ" أهـ .
إنَّها
مدارُ العملِ وأساسُ القَبولِ، فليراجعُ كلٌّ منَّا نيتَه.. وهل أنتَ تريدُ بعملِك
الصَّالحِ وجهَ اللهِ -تعالى- أو من أجلِ أن يقالَ: فلانٌ كذا وكذا، كما كانَ
أولئكَ.. فلا أحدَ يعلمُ ما في قلبِك إلا أنتَ وربُّ العالمينَ.. وما ربُّكَ
بظَّلامٍ للعبيدِ.
يا
أهلَ الإيمانِ..
من
كانَ من أهلِ الصِّدقِ فلا ينبغي له أن يخافَ ولا يحزنَ.. فإن من يصدقُ مع اللهِ
-تعالى- فإنَّه لا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً..
وهذا
الحديث يدل على أن أهل القرآن هم العاملون به وليس الأمر مقتصراً على حفظه وتلاوته
وتجويده والتشدق به، فلا بد من التزام أخلاق القرآن، والتأدب بآدابه، وتحريم حرامه
والعمل بما فيه. قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-:[ليس حفظ القرآن بحفظ الحروف،
ولكن إقامة حدوده].
وخلاصة
الأمر أن إخلاص العمل مطلوب، وهو علامة قبول العمل، فكل عملٍ إن لم يكن خالصاً
لوجه الله عز وجل فهو مردود، والواجب على أهل العلم أن يكونوا على قدر المسؤولية
والأمانة التي يحملونها، وكذا حملة القرآن لا بد لهم أن يعملوا به وإلا فسيكون حجة
عليهم ولات حين مناص.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم؛ ونفعني وإياكم بما فيه من
الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل
ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على توفيقه وامتنانه، والشكر له على إحسانه وإنعامه،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدُه
ورسولُه أفضلُ رسله وخاتمُ أنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً
كثيراً إلى يوم لقائه، أما بعد:
فإن
الإخلاص هو روح العمل: فعمل لا إخلاص فيه كجسد لا روح فيه، فهو بمنزلة الروح من
الجسد، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وملاك ذلك كله: الإخلاص والصدق، فلا
يتعب الصادق المخلص، فقد أُقيم على الصراط المستقيم فيسار به وهو راقد، ولا يتعب
من حرم الصدق والإخلاص فقد قطعت عليه الطريق واستهوته الشياطين في الأرض حيران،
فإن شاء فليعمل، وإن شاء فليترك، فلا يزيده عمله من الله إلا بعدًا، وبالجملة: فما
كان لله وبالله فهو من جند النفس المطمئنة.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما
تبلِّغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا
بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، ولا تجعل مصيبتنا في
ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا
يرحمنا. اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا
وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك، ونحن غير مفتونين، اللهم إنا نعوذ بك
من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم إنا نعوذ بك من
الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنّا في الأوطان والدور، واصرف عنا الفتن
والشرور، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك
واجزهم خير الجزاء على ما يقومون به من خدمة للإسلام والمسلمين يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين
خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين.
اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|