هدي سيد الأولياء في البكاء
الحَمْدُ
للهِ مسبب الأسباب وخالق خلقه من تراب, أحمده وهو أهل الحمد والثناء وإليه الْمآب,
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الوهاب , وأشهد أن محمد عبده
ورسوله خيرُ من عبد ربه وأناب وعلى الآل والأصحاب أما بعد:
أيها الناس: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى
وَأَطِيعُوهُ، واستغفروه وتوبوا إليه,
عباد
الله:إن من آيات الله الباهرة وعطاياه الجزلة قوله تعالى: (وأنه هو أضحك وأبكى).
فهو يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ فَبِقَضَائِهِ
وَخَلْقِهِ حَتَّى الضَّحِكُ وَالْبُكَاءُ وأنه خَلَقَ فِي عِبَادِهِ الضَّحِكَ،
وَالْبُكَاءَ وَسَبَّبَهُمَا وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ , وقد نوّع اللهُ أسباب البكاء
ومايز أشكالَه، فمنهم مَن قد يبكي بُكاءَ رحمةٍ أو خشية، أو بكاءَ شوق أو فرح، أو
بكاء جزَع أو حُزن، أو بكاء ضَعفٍ أو نفاق.
وقد جاءت
السُنة المطهرة بذكرِ "البكاء" وأحكامه؛ تارةً بالمدح والحث، وأخرى
بالذم والنهي.. وهو بالْجملة له أحكام ثلاثة:
الأول:
بكاء محمود مطلوب؛ وهو الذي شرعه الله وأثنى على أهله، وهو كلُ بُكاء منبعه ذكر
الله بالقلب أو باللسان.
والثاني:
بكاء مباح؛ وهو الغريزي الذي لا يملك الإنسان دفعه غالباً.
والثالث:
بكاء مذموم منهي؛ مثل أن يُجتلب لأجل الخلق أو ما صاحَبَه ما يَدلُّ على التسخُّط
من قضاء الله وقدَره، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ لا
يُعذِّبُ بدمعِ العينِ ولا بحُزنِ القلبِ، ولكن يُعَذِّبُ بهذا - وأشار إلى لسانه-
أو يرحمُ" رواه البخاري ومسلم.
أيها
المؤمنون: إنَّ البكاءَ مِن خشية الله تعالى مقامٌ عظيم، وهو مقامُ الأنبياء
والصالحين، إنَّه مقامُ الخُشُوع وإراقةِ الدُّموع، إنَّه التعبير عن خوف القلب،
وشوق الفؤاد للرب.. وإنَّ البكاء مِن خشية الله مِن أعظم الأمور التي يحبُّها
اللهُ ويثيب عليها؛ فعن أبي أُمامة رضي الله عنه عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ ، وَأَثَرَيْنِ :
قَطْرَةِ دُمُوعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَقَطْرَةِ دَمٍ يُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ...." الحديث؛ رواه التِّرمذي وصَحَّحه الألباني.
وقد قال
الله تعالى مادحاً رسله بالبكاء: (إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ
خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)؛ وقال مُثنياً على عباده المؤمنين البَكّائين تأثراً
بكلامه سبحانه: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعا)..
وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا ربه فقال: "اللهم إني أعوذُ بِكَ
منْ عَينٍ لا تَدْمَعُ، ونفْسٍ لا تَشبَعُ، وقَلبٍ لا يَخْشَعُ".
وانْظُروا
إلى الفَضْل العظيم الذي أَعَدَّهُ اللهُ سبحانه لصاحب العين التي تدمع خشيةً منَ
الله وخوفًا؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يَلِج النارَ رَجُلٌ بَكَى
مِن خشية الله" ، ويقول صلى الله عليه وسلم: "عينانِ لا تَمَسهما النار:
عينٌ بكتْ مِن خشية الله، وعينٌ باتَتْ تحرُسُ في سبيل الله" رواهما
التِّرمذي وصَححهما الألباني.. وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الرَّجلَ الذي
يبكي من خشية الله مِن السبعة الذين يُظِلهم الله يوم القيامة؛ يقول النبي صلى
الله عليه وسلم: "سبعةٌ يُظِلُّهم الله، يوم لا ظِلَّ إِلاَّ ظله"،
وذكرَ منهم: "ورجُلٌ ذَكَرَ الله خاليًا ففاضَتْ عَيْنَاه" متفق عليه.
أيُّها
الإِخْوة في الله: إن الْمُتأمّل لأحوال الناس ليجد قسوةً في القلوب، وقلةَ خوف من
علّام الغيوب، فها هي الآيات تُتلى، والأحاديث تروى، والْمواعظ تلقى، ولكن تدخل من
اليُمنى وتخرج من اليُسرى، لا يخشع لها قلب، ولا تهتز لها نفْس، ولا يسيل على
أثرها دمْع؛ إلا من رحِم الله.. ليسأل الواحدُ منَّا نفسَه: بالله عليكَ، متى
آخِرَ مرةٍ دَمِعَتْ عينُك خشيةً منَ الله وخوفاً.
ما هو
إلاَّ بسبب البُعدِ عن الله ومخالفة أمره، والرُّكونِ إلى هذه الدُّنيا ونسيانِ
وعيده ووعْده، مما يجعل القلوبَ قاسية والمَدامعَ قاحِطة؛ قال الله تعالى: (كلَّا
بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)؛ وحسبُنا هذا التَّهديد
الإلهي المُخيف: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ
أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين)؛ قال مالك بن دينار: ما ضَربَ اللهُ عبدًا بعقوبة
أعظم من قسوة القلب، وما غَضِبَ اللهُ على قوم إلاَّ نَزَعَ منهمُ الرحمة. وكان
السلفُ يرون عيناً لا تبكي من خشية الله لا خير فيها, فقد اشتكى ثابتُ البُنَاني
عينيه فقال له الطبيبُ: اِضمَنْ لي خصلة تبرأُ عيناك. فقال: وما هي؟ قال:لا تَبكِ.
فقال ثابت: وما خير في عين لا تبكي؟!..
فاللهم ربنا ارزقنا قلوباً خاشعة، وألسُناً
ذاكرة، وأعيُناً من خشيتك باكية، وأعِذْنا اللهم من أسباب الغفلة والقسوة
والغِواية؛ واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ،
وأَشْهدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهَ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحمَّداً
عَبدُ اللهِ ورَسولُهُ ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وسلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا. أما بعد
:
فلقد كان
هديُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم في البكاء خيرَ الهدي، فأصبح هو إمام الخاشعين،
وخير الباكين، صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين؛ واللهُ تبارك وتعالى لا يختار
لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا أكمل الهدي وأرضى السعي، وأتم الحال وأسمح الفِعال؛
فلا غروَ أن يَضربَ لنا في البكاءِ أعظمَ الأمثلةِ وأسمى الموعظةِ، مما فيه ترقيق
لقلوبنا، وتسييل لدموع أعيننا..
فها هو
بكاؤه صلى الله عليه وسلم لم يكن بشهيق ورفع صوت، بل كانت تدمع عيناه حتى تَهملا،
ويُسمَع لصدره أزيز كأزيز الرّحى من البكاء؛ وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة من
خشية الله، وتارة رحمةً بأمّته وخوفاً عليها من عذاب الله تعالى.
قرأ صلى
الله عليه وسلم قول الله عز وجل: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ
فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، بكى صلى الله عليه وسلم ورفع يديه وقال: "اللهم
أُمّتي أُمّتي"، وأخذ يبكي؛ فقال الله عز وجل: " يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ : إِنَّا
سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوؤُكَ " رواه الإمام مسلم.
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم رقيقَ القلب يبكي اذا سمع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة،
ورجاء وخشية، قال مرة لابن مسعود رضي الله عنه: "اقْرَأْ عليّ القُرآنَ"
قال: فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية: (فَكَيْفَ إِذَا
جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)،
قال "حَسْـبُكَ الآن"
فَالْتَفَتُّ إِليْهِ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ.
وبكى صلى
الله عليه وسلم لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف الطويلة، وجعل يبكي في صلاته وجعل
ينفخ ويقول: " رَبِّ ، أَلَمْ
تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ ؟ رَبِّ ، أَلَمْ تَعِدْنِي
أَلَا تُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ؟ رَبِّ ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا
تُعَذِّبَهُمْ وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ ؟ ".
ولم تكن
حياته صلى الله عليه وسلم صَفواً فهو كسائر البشر، ماتَ أقاربُه وقُتِل بين يديه
أصحابُه، فكانت حاله أكمل حال، بكى صلى الله عليه وسلم رحمة بهم وشفقة، وصبرَ
لقضاء الله ولم يتسخّطه.. فلما مات ابنُه إبراهيمُ دمعت عيناه وبكى رحمة له وقال: " تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ
إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، إِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ".
وها هو صلى
الله عليه وسلم بعد غزوة أُحد يَخرُج يلتمِسُ عمَّه أسدَ الله حمزةَ بنَ عبد
المطلب رضي الله عنه، فيجده قتيلاً ببطن الوادي قد مُثِّل به، فبُقِرَ بطنُه عن
كبده، وأنفُه وأذناه مقطوعتان، فبكى صلى الله عليه وسلم ، قال ابن مسعود رضي الله
عنه: "ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على
عمّه حمزة، فوضعه في القبلة ثم وَقفَ على جنازته، وانتحبَ حتى نشَعَ من البكاء"
أي: شَهِق من البكاء.
هذا جانبٌ
من حياته صلى الله عليه وسلم وطَرفٌ من هديه في البكاء، فهل تُرانا اليوم ونحن
نزعم حبَّه نقتدي به، ونبكي لِما بكى له ومنه..
=
فاللهم ربنا اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.. اللهم ربنا أعنا ولا
تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى
لنا..اللهم ربنا اجعلنا لك شاكرين مطاوعين مخبتين، أواهين منيبين، ربنا تقبل
توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبّت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدّد ألسنتنا، واسلُل سخائم
صدورنا..
=
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا وتتوب
علينا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم احفظنا بالإسلام
قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تشمت بنا أعداء و لا
حاسدين ، اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك ، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك
.
=
اللهم آمن روعات المسلمين أينما كانوا واستر عوراتهم يا حي يا قيوم ، واحفظهم بما
تحفظ به عبادك الصالحين ، وجنِّبهم يا رب العالمين الفتن ما ظهر منها وما بطن.
=
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى وألّف بين قلوبهم ووحد صفوفهم وارزقهم
العمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
=
اللهم انتصر لعبادك المستضعفين في كل مكان، اللهم احقن دمائهم وصن أعراضهم وتولّ
أمرهم وسدد رميهم وعجّل بنصرهم وفرّج كربهم وانصرهم على القوم الظالمين، اللهم
عليك بأعداء الدين من الكفرة المجرمين والطغاة الملحدين الذين قتلوا العباد وسعوا
في الأرض بالتخريب والتقتيل وأنواع الفساد اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا رب
العالمين، اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم وأنزل بهم بأسك
الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم أصلح أحوالنا ونياتنا
وذرياتنا واختم بالصالحات أعمالنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. ربنا آتنا في الدنيا
حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين .
وللمزيد
من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|