الثمرات العُلى
في سورة الأعلى
(الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا)
، و (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد
أنْ محمداً عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليماً كثيراً ،
أما بعد :
فاتقوا
الله عباد الله واحمدوه على بلوغ هذا الشهر المبارك واسألوه الإعانة والقبول.
عباد الله: إن التذكر والتذكير بالقرآن أبلغ
تذكير وأتمه كيف لا وربنا جل وعلا يقول(فذكر بالقرآن من يخاف وعيد )!! ومن هذه
السور الكريمة المباركة التي يحصل به التذكير (سورة الأعلى) والتي تتميز على غيرها
بكثرة قراءتها في بعض الصلوات الجهرية.
ففي هذه السورة الكريمة تبيانٌ للمعاني
الجليلة التي يَحتاجُها كلُّ مسلم ومسلمة؛ ليفهم وظيفته في هذه الدنيا، والملخَّصة
في التزكية والابتِعاد عن الأعمال المسبِّبة للشقاوة؛ لأنها مصدر العناء في الدنيا
والآخِرَة،
ومن فضائل هذه السورة ما ثبت في
"صحيح مسلم" أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقرأ في العيدَيْن
ويوم الجمعة بـ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى }، و{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ } ، وربما اجتَمَعا في يومٍ واحد فقرأهما.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى))،
و((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ))، و((قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). أخرجه أحمد
وصححه الألباني.
ففي أول هذه السورة يأمر تعالى بتسبيحه
المتضمن لذكره وعبادته، والخضوع لجلاله، والاستكانة لعظمته، وأن يكون تسبيحا، يليق
بعظمة الله تعالى، بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كل اسم بمعناها الحسن
العظيم، وتذكر أفعاله التي منها أنه خلق المخلوقات فسواها، أي: أتقنها وأحسن
خلقها، {وَالَّذِي قَدَّرَ} تقديرًا، تتبعه جميع المقدرات فكل شيء له قدر محدود
{فَهَدَى} إلى ذلك جميع المخلوقات, وهذه الهداية العامة، التي مضمونها أنه هدى كل
مخلوق لمصلحته.
وبيّن فيها سبحانه وتعالى نعمه
الدنيوية، ولهذا قال فيها: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أي: أنزل من السماء
ماء فأنبت به أنواع النبات والعشب الكثير،
فرتع فيها الناس والبهائم وكل حيوان، ثم بعد أن استكمل وأصبح زينة للناظرين، {جَعَلَهُ
غُثَاءً أَحْوَى} أي: أسود أي: جعله هشيمًا رميمًا.
ثم بعد ذلك ذكر الله تعالى فيها نعمه
الدينية، والتي امتن الله بأصلها ومنشئها، وهو القرآن، فقال: {سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسَى} أي: سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب، ونوعيه قلبك، فلا تنسى منه شيئًا،
وهذه بشارة كبيرة من الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أن الله سيعلمه
علمًا لا ينساه.
{إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} مما اقتضت
حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة، {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} ومن
ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده أي: فلذلك يشرع ما أراد، ويحكم بما يريد ،فينبغي على
العبد أن يُراقب الله في أقواله وأفعاله، وأحواله وخطراته، وأن يستحي من الله أن
يرى منه سوء سيرة أو سريرة .
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} وهذه أيضًا
بشارة كبيرة ، أن الله ييسر رسوله صلى الله
عليه وسلم لليسرى في جميع أموره، ويجعل شرعه ودينه يسرا .
{فَذَكِّرْ} بشرع الله وآياته {إِنْ
نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أي: ما دامت الذكرى مقبولة، والموعظة مسموعة، سواء حصل من
الذكرى جميع المقصود أو بعضه.
ومفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى،
بأن كان التذكير يزيد في الشر، أو ينقص من الخير، لم تكن الذكرى مأمورًا بها، بل
منهيًا عنها، فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين: منتفعون وغير منتفعين.
فأما المنتفعون، فقد ذكرهم بقوله:
{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} الله تعالى، فإن خشية الله تعالى، وعلمه بأن سيجازيه
على أعماله ، توجب للعبد الانكفاف عن
المعاصي والسعي في الخيرات. ومَن أراد أن يتأثَّر بالموعظة، فعليه أن يطهِّر قلبه
مِن الأدران؛ فكما قال عثمان: لو طَهُرت قلوبنا، لما شبعْنا مِن كلام ربنا، ولا
شكَّ أن القرآن يَحوي أكمل المواعظ وأنفعها.
وأما غير المنتفعين، فذكرهم بقوله: {وَيَتَجَنَّبُهَا
الأشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} وهي النار الموقدة، التي تطلع على
الأفئدة.
{ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}
أي: يعذب عذابًا أليمًا، من غير راحة ولا استراحة، حتى إنهم يتمنون الموت فلا يحصل
لهم، كما قال تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ
مِنْ عَذَابِهَا} .
بارك
الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور
الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمد
لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
عباد الله: ثم ختم هذه السورة العظيمة
بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} أي: قد فاز وربح من طهر نفسه ونقاها من
الشرك والظلم ومساوئ الأخلاق، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أي: اتصف بذكر
الله، وانصبغ به قلبه، فأوجب له ذلك العمل بما يرضي الله، خصوصًا الصلاة، التي هي
ميزان الإيمان، فهذا معنى الآية الكريمة، ويدخل في هذا المعنى زكاة الفطر وصلاة
العيد.
ثم قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي
الصُّحُفِ الأولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} .
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا} أي: تقدمونها على الآخرة، وتختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل على
الآخرة.
{وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وللآخرة
خير من الدنيا في كل وصف مطلوب، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء وصفاء، والدنيا دار
فناء، فالمؤمن العاقل لا يختار الأردأ على الأجود، ولا يبيع لذة ساعة، بترحة
الأبد، فحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة.
{إِنَّ هَذَا} المذكور لكم في هذه
السورة المباركة، من الأوامر الحسنة، والأخبار المستحسنة {لَفِي الصُّحُفِ الأولَى
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} اللذين هما أشرف المرسلين، سوى النبي محمد صلى الله وسلم عليه وسلم.
فهذه أوامر في كل شريعة، لكونها عائدة
إلى مصالح الدارين، وهي مصالح في كل زمان ومكان.
فاللهم لك
الحمد أن بلغتنا رمضان، اللهم كما بلغتنا رمضان فتقبل منا ومن المسلمين الصيام والقيام،
اللهم ارزقنا صيامه وقيامه إيمانا واحتسابا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعتق
رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار يا أرحم
الراحمين، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم اجعلنا من
الذين يحفظون حروفه ويقيمون حدوده، وانفعنا بالقرآن، ونسألك يا ذا الجلال والإكرام
أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وأن تجعله حجة
لنا لا علينا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن
ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنّا في الأوطان والدور، واصرف عنا الفتن والشرور،
اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل
مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء
المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم
اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم
شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك
اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم
المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
الخطبة مستفادة من تفسير السعدي
رحمه الله.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|