موعظة: ازهد في الدنيا
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيه، كما
يحب ربنا ويرضى، والشكر له على ما أوْلى من نعمٍ سائغةٍ وأسدى، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نستجلب بها نعمه، ونستدفع بها نقمه، وندخرها
عُدَّةً لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأشهد أن محمدًا
عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله نجوم المهتدين، ورجوم
المعتدين، ورضي الله عن صحابته الأبرار الذي قاموا بحقِّ صحبته، وحفظ شريعته،
وتبليغ دينه إلى سائر أمته، وكانوا خير أمة أخرجت للناس.
أمَّا بعدُ: فأوصِيكمْ
- عِبادَ اللهِ - ونفسِي بتقْوَى اللهِ تعالَى؛ فتقوى الله خير زاد للنجاة يوم
المعاد.
أيُّها المؤمنونَ: عَنْ سهلِ
بنِ سعْدٍ السَّاعِديِّ رضي الله عنه، قال: جاءَ رجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه
وسلم - فقالَ: يا رَسولَ الله دُلَّني عَلى عَمَلٍ إذا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي الله،
وأحَبَّنِي النَّاسُ، فقال: ((ازهَدْ فِي الدُّنيا يُحِبَّكَ الله، وازهَدْ فيمَا في
أيدي النَّاسِ يُحبَّكَ النَّاسُ)). حديثٌ حسنٌ رَواهُ ابنُ ماجه وغيرُهُ بأسانِيدَ حَسَنةٍ.
أيها الناس: اشتمل هذا الحديثُ
على وصيتين عظيمتين:
إحداهما: الزُّهدُ في الدُّنيا،
وأنَّه مقتضٍ لمحبة الله - عز وجل - لعبده.
والثانية: الزُّهد فيما في
أيدي الناس، وأنَّه مقتضٍ لِمحبَّة النَّاس.
فأمَّا الزُّهد في الدُّنيا،
فقد كثُر في القُرآن الإشارة إلى مدحه، وإلى ذمّ الرغبة في الدُّنيا، قال تعالى: {بَلْ
تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، وقال تعالى: {تُرِيدُونَ
عَرَضَ الدُّنيا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}، والأحاديث في ذمِّ الدُّنيا وحقارتها
عند الله كثيرةٌ جداً، ففي " صحيح
مسلم " عن جابر: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم
- مرَّ بالسُّوقِ والنَّاسُ كَنَفَيْهِ –أي على جنبيه- ، فمرَّ بجديٍّ أسكَّ –صغير الأذنين- ميِّتٍ، فتناوله، فأخذ بأذنه، فقال: ((أيُّكم يُحبُّ
أنَّ هذا له بدرهم؟)) فقالوا: ما نحبُّ أنَّه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: ((أتحبُّون
أنَّه لكم؟)) قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه؛ لأنَّه أسكُّ، فكيف وهو ميت؟
فقال: ((والله للدُّنيا أهونُ على الله من هذا عليكم)).
عباد الله وقد تكلَّم السَّلفُ
ومَنْ بعدَهم في تفسير الزُّهد في الدُّنيا، وتنوَّعت عباراتهم عنه ولعل جماع ذلك أو
من جماع ذلك ما قاله يونس ابن ميسرة رحمه الله[ ليس الزَّهادة في الدُّنيا بتحريم الحلال،
ولا بإضاعة المال، ولكن الزهادة في الدُّنيا أنْ تكونَ بما في يد الله أوثق منك بما
في يدك، وأنْ يكونَ حالك في المصيبة وحالُك إذا لم تُصب بها سواءً، وأنْ يكون مادحُك
وذامُّك في الحقِّ سواء] . ففسر الزهد في الدُّنيا بثلاثة أشياء كُلُّها من أعمال القلوب،
لا من أعمال الجوارح - ولهذا كان أبو سليمان يقول: لا تَشْهَدْ لأحدٍ بالزُّهد، فإنَّ
الزُّهد في القلب- :
أحدها: أنْ يكونَ العبدُ
بما في يد الله أوثقَ منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأ مِنْ صحَّة اليقين وقوَّته، فإنَّ
الله ضَمِن أرزاقَ عباده، وتكفَّل بها، كما قال:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ
إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا}فمن حقق اليقين، ووثق بالله في أموره كلها، ورضي بتدبيره
له، وانقطع عن التعلُّق بالمخلوقين رجاءً وخوفاً، ومنعه ذلك مِنْ طلب الدُّنيا بالأسباب
المكروهة، ومن كان كذلك، كان زاهداً في الدُّنيا حقيقة، وكان من أغنى الناس، وإنْ لم
يكن له شيء من الدُّنيا.
والثاني: أنْ يكونَ العبدُ
إذا أُصيبَ بمصيبةٍ في دُنياه مِنْ ذهابِ مالٍ، أو ولدٍ، أو غير ذلك، أرغبَ في ثواب
ذلك ممَّا ذهبَ منه مِنَ الدُّنيا أنْ يبقي له، وهذا أيضاً ينشأُ مِنْ كمالِ اليقين.وقد
روي عن ابن عمر: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: ((اللهُمَّ
اقسم لنا مِنْ خشيتك ما تحولُ به بيننا وبين معاصِيكَ، ومِنْ طاعتك ما تبلِّغُنا به
جنَّتك، ومِنَ اليقين ما تهوِّنُ به علينا مصائبَ الدُّنيا)) رواه الترمذي وغيره وهو
حديث حسن .
قال عليٌّ - رضي الله عنه
-: من زهد في الدُّنيا، هانت عليه المصيباتُ.
والثالث: أنْ يستوي عندَ
العبد حامدُه وذامُّه في الحقِّ، وهذا من علامات الزُّهد في الدُّنيا، واحتقارها، وقلَّةِ
الرَّغبة فيها، فإنَّ من عظُمتِ الدُّنيا عنده أحبَّ المدحَ وكرِهَ الذَّمَّ، فربما
حمله ذلك على تركِ كثيرٍ مِنَ الحق خشيةَ الذَّمِّ، وعلى فعلِ كثيرٍ مِنَ الباطلِ رجاءَ
المدح، فمن استوى عنده حامدُه وذامُّه في الحقِّ، دلَّ على سُقوط منزلة المخلوقين من
قلبه، وامتلائه مِنْ محبَّة الحقِّ، وما فيه رضا مولاه،
عباد الله : وليس الزهد أنه
لا يلبس الثياب الجميلة، ولا يركب السيارات الفخمة، وإنما يتقشف ويأكل الخبز بلا إدام
وما أشبه ذلك، ولكن يتمتع بما أنعم الله عليه، لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده،
وإذا تمتع بالملاذ على هذا الوجه صار نافعاً له في الآخرة، ولهذا لا تغتر بتقشف الرجل
ولبسه رديء الثياب، فربَّ حية تحت القش، ولكن عليك بعمله وأحواله.
فاللهم ارزقنا اتباع
نبينا الكريم ظاهرا وباطنا واحشرنا في زمرته واسقنا من حوضه واغفر لنا ولوالدينا
وللمسلمين أجمعين إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ علَى إحسانِهِ،
والشكرُ له علَى تَوْفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا
شريكَ له تعظيماً لشانِهِ، وأشهدُ أنَّ محمدا ًعبدُهُ ورسولُهُ الداعِي إلى رضوانِهِ،
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعلَى آلهِ وأصحابِهِ.
أمَّا بعدُ: فالوصية الثانية
في هذا الحديث : الزهدُ فيما في أيدي الناس، وأنَّه موجبٌ لمحبَّة الناس. وقال أيوب
السَّختياني: لا يَنْبُلُ الرجلُ حتى تكونَ فيه خصلتان: العفَّةُ عمَّا في أيدي الناس،
والتجاوزُ عمّا يكون منهم .
وقد تكاثرت الأحاديثُ عن
النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم
فمن ذلك عن عوف ابن مالك الأشجعي قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ( ألا تبايعون رسول الله ؟ فأعادها ثلاثا. ثم عد أشياء
ومنها قال( بايعوني .ولا تسألوا الناس شيئاً ) ، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط
أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه "رواه مسلم في صحيحه .
فمن سألَ النّاس ما بأيديهم،
كرهوه وأبغضوه؛ لأنَّ المال محبوبٌ لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبُّونه، كرهوه
لذلك.
ومن زهد فيما في أيدي الناس
وعف عنهم، فإنهم يحبونه ويكرمونه لذلك، ويسود به عليهم، كما قال أعرابي لأهل البصرة:
من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بِمَ سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه،
واستغنى هو عن دنياهم.
اللهم يا حي يا قيوم يا
ذا الجلال والإكرام لاتجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات
وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا وتتوب علينا ، وإذا أردت بعبادك فتنة
فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا
بالإسلام راقدين ولا تشمت بنا أعداء و لا حاسدين ، اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه
بيدك ، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك .
اللهم أصلح أحوالنا ونياتنا
وذرياتنا واختم بالصالحات أعمالنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم احفظ بلادنا من
كل سوء ومكروه، واحفظها من كل شر وفتنة يا رب العالمين، اللَّهُمَّ رد كيد الكائدين
في نحورهم وكفنا شرورهم إنك على كل شيء قدير، اللَّهُمَّ احفظ علينا أمننا وإيماننا
واستقرارنا في أوطاننا ولا تسلط علينا ذنوبنا ما لا يخافك فينا ولا يرحمنا برحمتك يا
أرحم الراحمين.
اللهم احفظ رجال أمننا
بحفظك، ومدهم بعونك وتوفيقك، وألف بين قلوبهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم ارحم
من قتلوا منهم وتقبلهم في الشهداء يا أكرم الأكرمين، اللهم اجعل ما قدموه لدينهم ووطنهم
وأمتهم في ميزان حسناتهم يا ذا الجلال والإكرام. اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا
وأمننا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا
رب العالمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين،
اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من
المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم
وأموالهم، اللهم أطعم جائعهم واكس عاريهم وفك أسيرهم واشف مريضهم يا رب العالمين، اللهم
اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم
يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك
بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا
عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك
سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد
لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ
الوليد الشبعان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|