الهدية بين المشروع والممنوع
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمد عبده ورسوله وصفيّه وخليله وأمينه على وحيه ومبلِّغ الناس شرعه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد فاتقوا الله حق التقوى.
ثم اعلموا - رحمكم الله - إن من أعظم وأجل ما يبعث الوئام في النفوس، وما يُسترضى به الغضبان، ويستميل المحبوب، ويُتقى به المحذور بعد الله، الهدية، الهدية التي تزيل غوائل الصدور وتذهب الشحناء من نفوس الناس بعد توفيق الله تعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تهادوا تحابوا)) [أخرجه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي بسند حسن] ، وفي رواية للترمذي: ((تهادوا، فإن الهدية تذهب وَحَرَ الصدر)).
والتهادي بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمر معروف مشهور ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم رغّب في قبولها والإثابة عليها، وكره ردّها لغير مانع شرعي، مهما كانت قليلة أو محتقرة قال صلى الله عليه وسلم: ((ولو أُهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت)) [رواه البخاري]. وعند البخاري في صحيحه، أن رسول الله قال: ((يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) والفرسن: عظم قليل اللحم.
ففي هذا كله الحض على قبول الهدية ولو قلّت؛ لما في ذلك من التأليف والتآلف، ولو كانت يسيرة ؛ لأن الكثير قد لا يتيسر كل وقت، فالاقتصاد في الهدية سبب لدوامها , وشعور بالإحساس من المهدي بما لا يحـرج المهدي إليه. وربما حملت المبالغة في الهدية على ترك خير أو منع بر فهو لا يستطيع أن يحضر مناسبة فلان لأنه لا يستطيع أن يهديه . والمرأة في البيت تجاهلت مناسبة لإحدى قريباتها لأنها لن تهديها إلا هدية بثمن بخس والمجتمع لايقبل الرخيص كما زعموا .
وقد أكّد النبي صلى الله عليه وسلم على قبول الهدية لا سيما هدية الطيب ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم : " كان لا يرد الطيب "، وعند الترمذي من حديث ابن عمر بسند حسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ترد الوسائد والدهن - يعني الطيب - واللبن ".
وبعد - عباد الله - فإن ما مضى من الحديث عن الهدية ببيان فضلها وأثرها وحِكَمِها، لا يمنع كونها محل تصنيف العلماء وتقسيمهم إلى ما يجوز منها وما لا يجوز؛ ونشير في هذا المقام على عجالة واختصار، إلى بعض المحاذير التي تقع فيها المجتمعات، في حياتهم اليومية، اجتماعية كانت أو معيشية أو وظَفِيَّة، فيما يتعلق بالهدايا المحرمة، التي قد يغفل عنها كثيرون.
فمن الهدايا المحرمة: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله - من أنه لا يجوز للمرء المسلم إذا شفع شفاعة أن يقبل هدية ممن شفع له عند ذي سلطان مما هو مستحق له، لتكون مقابل شفاعته. وهذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا)) [رواه أبو داود وصححه الألباني]. ولا يدخل في هذا التحريم، من استأجر لإنجاز معاملة ما أو متابعتها مقابل أجرة معينة فهذا من باب الإجارة الجائزة بالشروط الشرعية.
ومن الهدايا المحرمة - عباد الله - هدية بعض الأولاد دون بعض، لما في ذلك من الحيف والظلم؛ حيث إن بعض الناس يعجبه بر بعض أولاده به دون بعض , فيكافئه على هذا بتخصيص عطية له دون غيره والله سبحانه يقول: ﴿ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [المائدة:8]. وعن النعمان بن بشير، أن أباه أتى به إلى رسول الله فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (((أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟)) فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فَأرْجِعْهُ)) [رواه البخاري] ، وفي لفظ لمسلم: ((فَلاَ تُشْهِدْنِي إذاً فَإنّي لاَ أَشْهَدُ عَلَىَ جَوْرٍ)) ، وفي لفظ: ((اتّقُوا اللّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلاَدِكُمْ)) وفي رواية لأحمد: ((أَلَيْسَ يَسُرّكَ أَنْ يَكُونُوا إلَيْكَ فِي الْبِرّ سَوَاءً؟)).
أما كيفية العدل بين الأولاد في العطية فهي أن يُعطى الذكر مثل حظ الأنثيين، كما قسم الله ذلك في فريضة الميراث العادلة , ويستثنى من ذلك عباد الله، إذا قام بأحد الأبناء حاجة ليست في الآخرين من فقر أو مرض أو نحو ذلك فلا حرج أن يخصه بعطية .
ومن الهدايا المحرمة: ما يتناوله الشهود في المحاكم جزاء شهادتهم ويسمونها هدية وما علم أولئك أن أداء الشهادة واجب بنص الكتاب كما قال - تعالى -: ﴿ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ﴾ [البقرة:282]. وقال -سبحانه-: ﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة:283].
عباد الله : من الصور المحرمة في الهدايا، ما يُهدى من أشياء محرمة كآلات لهو والمعازف وكل ما يوصل إلى الشر ويعين عليه
ويدخل في الهدايا المحرمة: الإهداء والتهادي بمناسبة أعياد الكفار أو ما يسمى يوم الأم، أو عيد الميلاد أو عيد الحب أو ما شابه ذلك مما هو مأخوذ من أهل الكفر، وفي الحديث الصحيح: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)) [رواه أحمد وأبو داود]
جعلنا الله وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له إله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
ومن الهدايا المحرمة عباد الله : ما يُعطاه العُمَّال الذين يُعينهم ولي الأمر على حاجات الناس فيُعطون الهدايا لأجل المحاباة، بحيث لو كانوا في بيوتهم لم ينلهم منها شيء، فهذه حرام لا يجوز أخذها بدليل ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي حُمَيد الساعدي رضي الله عنه قال: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي ، قَالَ : فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : ( مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لا ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ )، ثُمَّ قَالَ : ( اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْنِ ).
ومما يجهله بعض الناس أن يهدي الإنسان لموظف على رأس العمل , ولو أنه تخلَّى عن وظيفته لم يهده كمن يهدي للمدير أو رئيس القسم , وكذا مدراء المدارس والمدرسين ونحوهم من الموظفين على مختلف مرتباتهم أو مناصبهم في الدولة فإنَّ هؤلاء لا يجوز لأحد أن يهديَهم شيئاً لا مالاً ولا غيره ولا يجوز لمن أُهدي له شيء من ذلك قبوله حتى ولو زعم أنه واثق من نفسه وأنها لن تؤثر هذه الهدية على عمله .
وبهذا تُعرف أنَّ الهدايا التي يُقدّمها الطلبة للمعلمين أو الطالبات لمعلماتهن - أيّاً كانت نوع هذه الهدية مالية أو عينية- أنها من هدايا العُمَّال وفي الحديث ( هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ ) [رواه أحمد وصححه الألباني] والغُلُول كبيرة من كبائر الذنوب وموجب لعذاب القبر , وقد تصل بعض هذه الهدايا أن تكون من الرشوة التي لعن الله آكلها ومعطيها وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ ) [رواه أبو داود وصححه الألباني].
عباد الله ثبت أن هذه الهدايا فيها من المفاسد الشيء الكثير فقد كانت محل تنافس مذموم أي الطلبة يهدي معلمه أكثر, وأيهم يبدع في اختيارها وتنميقها وتحسين تغليفها، ولا يخفى أنَّ هذه قد تكون مثقلة لكاهل الأب ومزاحمة لدخلة المحدود لا سيما إذا تعدد أبناؤه المهدون مع ما فيها كما تقدم من الآثام والأوزار . وإن كان الإسلام رغب في مكافئة المحسن وتشجيع المتفاني في عمله فلا يستوي المدرس والموظف والناصح في عمله الذي راقب الله قبل أن يراقب الناس لا يستوي هو ومن جعل عمله هماًً يسعى إلى إلقائه عن كاهله بأي صفة كانت ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( مَن صَنَعَ إِليكُم مَعرُوفًا فَكَافِئُوه ، فَإِن لَم تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوا بِهِ فَادعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوا أَنَّكُم قَد كَافَأتُمُوهُ ) [رواه أبو داود وصححه الألباني]. ولكنَّ مكافئة المحسن من هؤلاء تكون بالدعاء له , والثناء عليه بحسن صنيعه والكلمة الصادقة لها أثر في التشجيع قد يفوق ما تبذله من مالك .
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا فى ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، وﻻ مبلغ علمنا، وﻻ تسلط علينا من ﻻ يرحمنا، اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم إنا نسألك مما سألك منه محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك مما استعاذ منه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم ما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته لنا رشدا، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا ، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم آمنّا في الأوطان والدور، واصرف عنّا الفتن والشرور، وأصلح لنا الأئمة وولاة الأمور، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارزقهم بطانة الصلاح وأهل الخير، وأبعد عنهم أهل الزيغ والفساد، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات انك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم أنت الله لا إله أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل غلينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا غيثا هنيئا مرئيا سحقا غدقا مجللا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين اللهم بنا من الضيق والظنك ملا نشكوه إلا إليك اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا, اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا. اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-129.html
|