تابع للخطبة الماضية عن الجهاد في سبيل الله
الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إليه المصير ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المسلمون : اتقوا الله حق تقواه واستمسكوا من دينكم الإسلام بعروته الوثقى ومنتهاه ألا وهي لا إله إلا الله .
عباد الله : وصلاً لما بدأناه من الحديث في الجمعة الماضية عن الجهاد شروطه وأحكامه ، وموانعه ، نذكر اليوم ما نرجوا أن ينفع الله فيه الجميع .
لقد كان الجهاد وهو قتال المشركين في أول الإسلام منهي عنه لأنه لم تكتمل شروطه بعد ولم تنتفي موانعه ، ولكن أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بجهاد من نوع آخر وهو الجهاد بالحجة والبيان وتبلغ القرآن . قال تعالى : ( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً ) . وبعد ما هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وهاجر معه أصحابه واستقبلهم الأنصار فناصروهم وعزروهم حتى قاسموهم أموالهم ، وآخا النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار . حينها فُرض الجهاد بالسيف والقتال في حق من قاتلهم فقط دون من لم يقاتل قال تعالى : ( وقاتلو في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) . ثم فُرض عليهم قتال المشركين كافة قال الله تعالى : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ) وقال سبحانه : ( أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) . فقتال المشركين كافة كان محرماً أولاً ثم مأذوناً به ثانياً . ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ثالثاً ، ثم مأموراً به لجميع المشركين رابعاً ، إما فرض عين أو فرض كفاية على تفصيل في ذلك .
أيها الإخوة : الناظر بتأمل لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد حينما يقارنه في حال كثيرٍٍ من الرايات اليوم التي ترفع شعار الجهاد ، يجد البون الشاسع بين الهديين ، بل يكاد يجزم بأن أولئك النفر لا يعرفون من الجهاد إلا الحماس الزائد المبني على غير ما شرع الجهاد من أجله ، وهذا يدعونا أيها الأخوة حتماً لمعرفة متعلقات وأسس الجهاد .
فأول هذه المتعلقات : الإخلاص لله تعالى وهو شرط في جميع العبادات لا تتم ولا تقبل أي عبادة إلا بتحققه ، فجل ما في كتاب الله من آية ولا حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم تتعلق بالجهاد إلا ويذكر فيها لفظ ( في سبيل الله ) فإذا كان ما يسمى بالجهاد إنما يكون في سبيل الوطن ، أو سبيل الحزب ، أو سبيل الديمقراطية ، أو سبيل الحرية ، أو سبيل الجماعة ، فإن هذا لا يسمى جهاداً في سبيل الله فهو مردود على صاحبه ، بل عليه إثم فعله هذا .
ثانياً : مما يتعلق بالجهاد المشروع : إذن ولي أمر المسلمين فهو الذي يقدر المصالح ، والمفاسد ، والمواقيت الزمانية والمكانية ، وهو الذي يجهز الجيوش ، وهو الذي يأذن ببدأ القتال وإنهائه وعقد الصلح ، وأخذ الجزية ، وحوزة الأسارى ، وقسم الغنائم ... وغير ذلك .
ثالثاً : مما يتعلق بالجهاد : النهي عن الغلول ، والغدر ، وقتل النساء والصبيان ، والشيوخ الكبار في السن ، والرهبان في الصوامع ، وعن كل من لم يشارك في القتال ولم يحرض عليه .
رابعاً : مما يتعلق بالجهاد : إذن الوالدين المسلمين ، وتخليص الذمة من حقوق الناس كالديون ونحوها .
خامساً : مما يتعلق بالجهاد : وهو شرط لازم : إعداد العدة اللازمة من العتاد وعدد المقاتلين (ولا يمكن أن يحقق الجهاد أهدافه إلا به )
بحيث يغلب على الظن النصرة على الأعداء : لقوله تعالى : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ... ) الآية .
سادساً : مما يتعلق بالجهاد : عدم أخذ الصغار الذين لم يبلغوا ، وكذلك عدم أخذ النساء للقتال إلا أن يكن يسقين المقاتلين ويداوين الجرحى ويقمن بصنع الطعام .
أيها الإخوة : مما سبق يتضح لنا الفرق بين الجهاد المشروع وجهاد من يسمون أنفسهم وأعمال بالجهاد وليسوا كذلك .
ولا شك أن الفرق واضح وجلي ، فجهادهم اليوم في سبيل القومية ، والعروبة ، والوطن والديمقراطية والشعارات الزائفة ، ومع هذا فالغدر والخيانة وقتل النساء والصبيان ومن منع الإسلام من قتلهم حال الحرب هو سمة هؤلاء القوم ، ناهيك عن ذهابهم بغير إذن ولي الأمر ، ومعصيتهم لوالديهم بالذهاب ، وعدم إعداد العدة اللازمة .
وأعظم المصائب وأجلها هو قتل أهل الإسلام وترك أهل الكفر بحجة الجهاد في سبيل الله والإصلاح ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون .
.... بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدا ، يسر من أراد به خيراً لليسرى ، ويسر من علم منه الشر للعسرى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه النجباء وعلى من على آثارهم اقتفى ، وسلم تسليماً كثيراً .
أيها الإخوة المسلمون : اتقوا الله حق التقوى . عباد الله :
ما أقدم أحد ممن ينتسب للإسلام على الأعمال التي يسمونها بالجهاد والإصلاح ، إلا وله دوافع ومنطلقات بنى عليها ما أقدم عليه ، ولا يمكن لإنسان أن يقدم نفسه وماله إلا والدافع له أمر عظيم . ولا أقوى من دوافع الشبه التي يتعلق بها هؤلاء بعد إيعاز من مروجيها ليقضوا أغراضهم المشينة على حساب الشباب المتحمس المريد للخير والإصلاح شعر أو لم يشعر .
وهؤلاء القوم جماعة تتكون من مختلف طبقات ، طبقة القيادية والزعامة والرئاسة وتدبير الأمور . ولهم أهداف من وراء أعمالهم تلك ، فمن أهدافهم أولاً إسقاط دولة التوحيد لينفتح الباب على مصراعيه أمام البدع والحزبيات في البلاد كما هو الشأن في البلاد الأخرى ، ومن أهدافهم التشفي لما في صدورهم من الغيظ على الحكام والعلماء ، ومن أهدافهم الوصول إلى سنام الحكم ، ومنها إحداث البلبلات في البلاد لينشغل المسؤولون فيها عما هو أهم منها . وأهداف وأهداف ..
وطبقة أخرى : استغل ما عندهم من حماس ديني وحسن نية ، وجهل بأحكام الشريعة فاستعملوا قنابل موقوتة يفجرونهم متى شاؤا ، فيمن شاؤا ، وكيف شاؤا .
وطبقة أخرى : استغل فقرهم وحاجتهم للمال ولقمة العيش فجندوا لأعمال تناسب حالهم ، فأصبحت خليتهم خلية متكاملة كلٌ يقوم بالدور المناط به ـ فسموا أنفسهم بالمجاهدين والمصلحين ، وأعمالهم بالجهاد ، وخُدع فيهم كثيرُ من الناس . وأصبح الأمر ملتبساً لما يوردون من الشبه على الناس .
أيها الإخوة : لهؤلاء القوم شبه متمسكون بها ، ويروجونها عبر وسائلهم ، سنقف إن شاء الله في الجمعة القادمة على ما يتيسر منها وأهمها بشيء من البيان والإيضاح ، لتجلية الأمر وإزالت اللبس ، ورد الحق إلى نصابه .
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه .... الخ .
|