الخطبة الأولى
عن الشائعات
الحمد لله الذي هدانا للاسم , وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس ، وأشهد أن لا أله إلا الله وحده لا شريك له , واشهد أن محمد عبده ورسوله , صلى لله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين , وسلم تسليما كثيرا0
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله 0
أيها الاخوة المسلمون : للشائعات خطر عظيم وأثر بليغ، أخطر من الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات والأشخاص، فكم أقلقت مـن أبرياء , ولذلك فإن الدول تهتم بها، معتبرينها مقياس مشاعر الشعب 0 للإشاعة قدرة على تفتيت الصف الواحد والرأي الواحد، وتوزيعه وبعثرته، فالناس أمامها بين مصدق ومكذب، ومتردد ومتبلبل 0 وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع». ويقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: "اعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما سمع". وقد وقع للمسلمين في العهد الأول شائعات كان لها آثار سيئة : منها الشائعة التي انتشرت أن كفار قريش أسلموا، وذلك بعد الهجرة الأولى للحبشة، كان نتيجتها أن رجع عدد من المسلمين إلى مكة، وقبل دخولهم علموا أن الخبر كذب، فدخل منهم من دخل، وعاد من عاد. فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم من عذاب قريش ما كان فارا منه.. فلله الأمر من قبل ومن بعد 0 ومنها ما حصل في معركة أحد عندما أشاع الكفار أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل، فتّ ذلك في عضد كثير من المسلمين، حتى إن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال0 ومنها ما حصل ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى تجمع أخلاط من المنافقين ودهماء الناس وجهلتهم، وأصبحت لهم شوكة، وقتل على إثرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته وقطع الماء عنه. ومنها تلك الحادثة التي هزت بيت النبوة شهراً كاملاً، بل هزت المدينة كلها . فحادث الإفك، قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها ماً لا تطاق، وكلف الأمة المسلمة تجربة من أشق التجارب ، وعلق قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلب زوجه عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه، وقلب صفوان بن المعطل... شهراً كاملاً، علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق. وفي هذا الحديث ربى الله المؤمنين تربية شديدة، ووعظهم موعظة عظيمة، وهو الحكيم الخبير.. يقول الله تعالى: {إنَّ الَذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ 0 فهم ليسوا فرداً ولا أفراداً، إنما هم عصبة متجمعة ذات هدف واحد، ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك، إنما هو الذي تولى معظمه، وهو يمثل عصبة اليهود و المنافقين الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة.. وبدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث، وعمق جذوره.. ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد: {لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.. فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته،. وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة بهذه المناسبة عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم... أما الذين خاضوا في الإفك، فلكل واحد منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ نعم أيها الاخوة الأولى : أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً، وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحمأة.. وامرأة نبيهم الطاهر وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم، فظن الخير بهما أولى، فإنه مما لا يليق بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يليق بصاحبه الذي لم يَعْلَم عنه إلا خيرا.. كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما، وهذا يدل على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة رضي الله عنهما، وما نسب إلى رجل من المسلمين من معصية لله وخيانة لرسوله، وارتكاس في حمأة الفاحشة لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة. هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور 0فأما الخطوة الثانية؛ فهي طلب الدليل والبرهان : لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الكَاذِبُونَ}.. وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات وأطهر الأعراض، ما كان ينبغي أن تمر هكذا ، وأن تشيع دون تثبيت ولا بينة، وأن تتقاذفها الألسنة دون شاهد ولا دليل: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} و إذ لم يفعلوا فهم كاذبون إذن... وهاتان الخطوتان: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير، وخطوة التثبت بالبينة والدليل.. غفل عنهما المؤمنون في حادث الإفك، وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أمر عظيم لولا لطف الله لمسّ الجماعة كلها البلاء العظيم.. فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبداً بعد هذا الدرس الأليم: {ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ...}. ومما ينبغي على المسلم عند سماعه مثل هذه الإشاعات والأخبار: أن يقدم حسن الظن بأخيه المسلم ، وأن ينزل أخاه المسلم بمنزلته، وهذه هي وحدة الصف الداخلي: {لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً . ,ومنها :أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره؛ فإن المسلمين لو لم يتكلموا بمثل هذه الشائعات لماتت في مهدها، ,ومنها :أن يرد الأمر إلى أولي الأمر، ولا يشيعه بين الناس أبداً، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي، كما قال تعالى: {وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً} والشائعات إذا حوصرت بهذه الأمور فإنه يمكن أن نتفادى آثارها السيئة المترتبة عليها، ولكن ليس الإشكال في هذا , بل الإشكال أن هناك فريقا من المؤمنين يرضون أن يستمعوا لمثل هذه الإشاعات ، وقد بين الله ذلك بقوله تعالى: ( وفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى – "فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالاً، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين، يطلبون لهم الفتنة،وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم: إما لظن مخطئ. أو لنوع من الهوى. أو لمجموعهما 0 والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء 0 اللهم اعصمنا من الزلل 0
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم 0 وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروا ربكم وتوبوا اليه إنه هو الغفور الرحيم 0
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى , وأشهد أن لا أله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى , واشهد أن محمدا عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا 0
أما بعد فاتقوا الله عباد الله 0 أيها الإخوة المسلمون : حينما تفرغ القلوب والأفئدة من الإيمان , تفقد المرجعية في ميزان الأمور وعند حدوث الغرائب والنوازل , فلا تجد من هذا حاله إلا كالشجرة في مهب الريح تميل أينما كان اتجاه الرياح , وثباته على الأرض مرهون بقوة وسرعة تلك الرياح من ضعفه , وما أكثر من يرى واقعا على الأرض اليوم لا يستطيع النهوض من مصرعه 0 اليوم وعلى ضعف إيمان كثير من الناس تهب عليهم رياحا كثيرة ومتعددة وقوية , من أعظم تلك الرياح رياح الشائعات , فبمجرد أن يقوم إنسان بإشاعة أمر ما , له فيه مآرب عدة فيبثه بين الناس خصوصا إذا كان للناس فيه مصلحة مالية أو نحوها , تعال فانظر العجب العجاب من حال الناس , في الأيام القليلة الماضية نشرة شائعة بين الناس مفادها احتواء نوع من ماكينات الخياطة على مادة تستخدم في المتفجرات , فهرع الناس إلى البيع والشراء لتلك المكائن بمبالغ طائلة والحصيلة لا شيء , إليكم أيها الإخوة ما تحدث به المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية عن هذا الموضوع جاء فيه : نفى المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية ( فلان ) ما تداوله عدد من المواطنين بأن هناك توجيهات صادرة من الجهات الأمنية إلى رجال المباحث والشرطة بإلقاء القبض على أي شخص يضبط لديه ماكينة سنجر بحجة استخدامها في العمليات الإرهابية عن طريق مادة اليورانيوم التي نفى أنها تحتويها. وأضاف : هذه شائعة أخرى تهدف إلى التضليل على تحذيرنا من الانسياق وراء الشائعات، ولذلك نؤكد ما سبق وأن وضحناه أن هذا الموضوع برمته شائعة لا أساس لها من الصحة وتهدف إلى الاحتيال. وكانت إشاعة أخرى تم تداولها على خلفية الإشاعة السابقة التي انتشرت خلال الأيام الماضية، ومفاد هذه الإشاعة بأن الجهات الأمنية قد أصدرت أمراًَ للدوريات ورجال المباحث بإلقاء القبض على أي شخص يجدون معه ماكينة ماركة سنجر خشية استخدامها من قِبل الفئة الضالة في العمليات الإرهابية، علماً بأن الإشاعة قد روجت بأن أي ماكينة ماركة سنجر تحتوي على مادة الزئبق الأحمر ويقال إن مصدرها هو رجل مقيم في الأردن روج لها وانتقلت بسرعة فائقة إلى السعودية مما جعل الكثير يلهث خلف هذه الشائعة ببيع ما لديه من ماكينات بمبالغ خيالية وصل بعضها إلى قرابة المائة ألف ريال. انتهى كلام المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية 0
أيها الاخوة : ما لذ أوصل الناس الى هذه الدرجة من تصديق لكل ناعق فجعلهم يتقبلون كل ما يلقى عليهم ؟ وما هي الطرق والوسائل المشروعة التي يجب على المسلم أن يسلكها في التعامل مع الشائعات ؟
أما السؤال الأول : فإضافة إلى ما سبق ذكره من أن السبب الرئيس هو قلة الإيمان بالله أو ضعفه أو انعدامه , فهناك أمور أخرى منها على سبيل المثال :الجشع والطمع المادي بمختلف صوره وأشكاله 0 ومنها : الافتتان لدى البعض بحب نقل الأخبار والشائعات والترويج لها 0 ومنها : كثرة مستجدات الأمور على الساحة 0 ومنها تهويل وتضخيم الأمر المشاع وإعطائه أكبر من حجمه بكثير ما يؤدي إلى حب الاستطلاع عليه أو المشاركة فيه 0 ومنها : مساعدة وسائل الإعلام العصرية على نشر الشائعات بشكل غير عادي بحثا عن استقطاب اكبر عدد من المتابعين لتلك الجهة التي تتولى نشر الشائعة 0 ومنها : استنزاف أموال الناس بأي شكل من الأشكال 0 الى غير ذلك من الامور التي من تتبعها وجد أنها كثيرة جدا 0
وقد سمعنا فيما مضى من الطرق والوسائل المشروعة التي يجب على المسلم أن يسلكها تجاه الشائعات ما لعل فيه ذكرى لكل عاقل لبيب
اللهم أصلح أحوال المسلمين ..................... إلى آخر الدعاء
|