خطبة جمعة / في تفسير سورة التكوير
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا 0 وأشهد أن لا اله إلا الله الواحد الأحد لم يكن له كفوا أحدا 0 وأشهد أن محمد عبده ورسوله المصطفى , صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن اقتفى وسلم تسليما كثيرا 0 أما بعد
فاتقوا الله عباد الله.
سورة التكوير من السور المكية التي نزلت على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو في مكة , حق على كل مسلم أن يقف مع آياتها ويتاملها ففيها من الأوصاف ليوم القيامة ما لو أدركه المسلم جيدا لكأنه يراه رأي العين 0
ابتدأ الله تعالى هذه السورة بقوله سبحان : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} هذا بيانٌ لأهوال القيامة وما يكون فيها من الشدائد والكوارث، وما يعتري الكون والوجود من مظاهر التغيير والتخريب , والمعنى : إِذا الشمس لُفَّت ومُحِيَ ضوءها 0 ثم قال سبحانه : {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} وإِذا النجوم تساقطت من مواضعها وتناثرت 0 {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} حركت من أماكنها، وسُيّرت في الهواء حتى صارت كالهباء كقوله تعالى { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً } ( وتكون الجبال كالعهن المنفوش ) وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب )
ثم قال سبحانه : { وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} النوق الحوامل تركت هملاً بلا راعٍ ولا طالب، وخصَّ النوق بالذكر لأنها كرائم أموال العرب 0 ثم قال سبحانه : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} جُمعت من أوكارها وأجحارها ذاهلةً من شدة الفزع { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } تأججت ناراً ، وصارت ً تضطرم وتلتهب {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قُرنت بأشباهها، فقرن الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح قال الطبري: يُقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة ، وبين الرجل السوء مع الرجل السُّوء في النار0 ثم قال سبحانه : { وَإِذَا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ } قال ابن جزي: الموءودة هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حيَّةً من كراهته لها أو غيرته عليها، فتسأل يوم القيامة { بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } ؟ على وجه التوبيخ لقاتلها 0
ثم قال سبحانه : { وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} صحف الأعمال تنشر وتبسط عند الحساب 0 {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} أزيلت ونزعت من مكانها كما ينزع الجلد عن الشاة { وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} نار جهنم أوقدت لأعداء الله تعالى0{ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} أدنيت وقربت من المتقين 0 حينها وفي ذلك الوقت تظهر الحقائق ولا يخفى على الله منهم خافية {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} علمت كل نفسٍ ما أحضرتْ من خيرٍ أو شر، وهذه الجملة {عَلِمتْ نَفْسٌ} هي جواب ما تقدم من أول السورة { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إِلى هنا، والمعنى إِذا حدثت تلك الأمور العجيبة الغريبة، علمت حينئذٍ كل نفسٍ ما قدمته من صالح أو طالح 0 لقوله تعالى : { وَمَا تَشَاءُونَ إلا أن يشاء الله رب العالمين } سبب نزول , وهو : ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى قال: لما أنزلت { لمن شاء منكم أن يستقيم} قال أبو جهل: ذاك إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
ثم أقسم تعالى على صدق القرآن، وصحة رسالة محمد عليه الصلاة السلام فقال سبحانه : {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} هذا قسم من الله بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار، وتظهر بالليل مؤكد 0 ثم قال سبحانه وصفا تلك النجوم بـ {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} التي تجري وتسير مع الشمس والقمر ثم تستتر وقت غروبها، كما تستتر الظباء في كنائسها - ومغاراتها - قال القرطبي: النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل، وتكنس وقت غروبها ، كما تستتر الظباء في كناسها - مغاراتها - {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } وأقسم سبحانه بالليل إِذا أقبل بظلامه حتى غطَّى الكون {و –با َالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أضاء وتبلَّج، واتَّسع ضياؤه حتى صار نهاراً واضحاً {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا هو المقسم عليه إِن هذا القرآن الكريم، لكلامُ الله المنزَّل بواسطة ملك عزيز على الله هو جبريل كقوله تعالى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } قال المفسرون: أراد بالرسول "جبريل" بقرينة ما بعده حيث قال سبحانه {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أي شديد القوة، صاحب مكانة رفيعة، ومنزلة سامية عند الله جل وعلا {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} مطاعٍ هناك في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة الأبرار، مؤتمن على الوحي الذي ينزل به على الأنبياء {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} نفى تعالى عنه الجنون في هذه الآية وغيرها خلاف لما يقوله أهل مكة ، ونفى أيضا كون القرآن من عند نفسه0 ثم قال تعالى : {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} أي وأقسمُ الله لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته الملكية التي خلقه الله عليها بجهة الأفق الأعلى البيّن من ناحية المشرق حيث تطلع الشمس قال أبو حيّان: وهذه الرؤية بعد أمر غار حراء، حين رأى جبريل على كرسي بين السماء والأرض، في صورته له ستمائة جناح قد سدَّ ما بين المشرق والمغرب 0
ألا فاتقوا الله عباد الله وتعلموا من دينكم ما استطعتم , واعملوا بما علمتم ما اجتهدتم 0 واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروا ربكم وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم 000
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثير ا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى , واشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له , واشهد أن محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه وصفيه , صلى الله عليه وعلى آله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا 0
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله حق التقوى0
أيها الإخوة المسلمون : وصلا للاحق بالسالف في تفسير هذه السورة العظيمة نقول قوله سبحانه : {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي وما محمد على الوحي ببخيل يقصِّر في تبليغه وتعليمه، بل يبلغ رسالة ربه بكل أمانةٍ وصدق {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أي وما هذا القرآن بقول شيطان ملعون كما يقول المشركون 0 ثم قال سبحانه بعد هذا الوصف {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} أيَّ طريقٍ تسلكون في تكذيبكم للقرآن، واتهامكم له بالسحر والكهانة والشعر، مع وضوح آياته وسطوع براهينه ؟ وهذا كما تقول لمن ترك الطريق المستقيم: هذا الطريق الواضح فأين تذهب ؟ {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} ما هذا القرآن إِلا موعظة وتذكرة للخلق أجمعين { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} أي لمن شاء منكم أن يتبع الحق، ويستقيم على شريعة الله، ويسلك طريق الأبرار 0{ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ما تقدرون على شيء إِلا بتوفيق الله ولطفه، فاطلبوا من الله التوفيق إِلى أفضل طريق .
أيها الإخوة :
ملخص ما جاء في هذه السورة المكية العظيمة ، وهي تعالج حقيقتين هامتين هما: "حقيقة القيامة" وحقيقة "الوحي والرسالة" وكلاهما من لوازم الإِيمان.
ابتدأ الله السورة الكريمة ببيان القيامة وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل، يشمل الشمس، والنجوم، والجبال، والبحار، والأرض، والسماء، والأنعام، والوحوش، كما يشمل البشر، ويهز الكون هزاً عنيفاً طويلاً، ينتثر فيه كل الوجود، ولا يبقى شيء إِلا وقد تبدَّل وتغيَّر من هول ما يحدث في ذلك اليوم الرهيب {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ* وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ* وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ* وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} 0ثم تناول حقيقة الوحي، وصفة النبي الذي يتلقاه ، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي الذي نزل لينقلهم من ظلمات الشرك والضلال ، إِلى نور العلم والإِيمان فقال سبحانه {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوَارِ الْكُنَّسِ* وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ* وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}0
ثم ختم الله السورة الكريمة ببيان بطلان مزاعم المشركين حول القرآن العظيم، وذكر أنه موعظةٌ من الله تعالى لعباده فقال سبحانه { فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ* إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ* لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }.
اللهم علمنا تأويل كتابك وفقهنا في دينك 0
اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آل محمد ................ الى آخر الدعاء 0
|