خطبة جمعة
تفسير سورة ( عم يتساءلون )
ﺇن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا ﺇله ﺇلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)) (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما))
أما بعد : فان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة المسلمون : قال الله تعالى : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) فالله تعالى يسأل ويجيب : عن أي شيء يتساءل المكذبون بآيات الله ؟ : أ( عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) عن الخبر العظيم الذي طال فيه نزاعهم، وانتشر فيه خلافهم على وجه التكذيب والاستبعاد ، وهو النبأ الذي لا يقبل الشك ولا يدخله الريب ، ولكن المكذبون بلقاء ربهم يجحدون ولا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم . ولهذا قال: ( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * - ثم كرر الخبر – بقوله ( ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) أي: ليس الأمر كذلك بل سيعلمون إذا نزل بهم العذاب ما كانوا به يستهزؤون يكذبون ، حين ( يُدعّون إلى نار جهنم دعا ) فيقال لهم: ( هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ )0 ثم بين تعالى النعم والأدلة الدالة على صدق ما أخبرت به الرسل فقال سبحانه : ( ألم نجعل الْأَرْضَ مِهَادًا ؟ ) أي: ممهدة مهيأة لكم ولمصالحكم ، من الحروث والمساكن والسبل . ( وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ) تمسك الأرض لئلا تضطرب بكم وتميد . ( وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ) أي : ذكورا وإناثا من جنس واحد، ليسكن كل منهما إلى الآخر ، فتكون المودة والرحمة ، وتنشأ عنهما النسل و الذرية ، وفي ضمن هذا الامتنان ، بلذة المنكح . ثم قال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ) أي: راحة لكم ، وقطعا لأشغالكم ، فجعل الله الليل يغشى الناس لتنقطع حركاتهم الضارة ، وتحصل راحتهم النافعة فينامون مرتاحين . ( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ) سبع سموات ، في غاية القوة والإحكام ، والصلابة والشدة ، وقد أمسكها الله بقدرته ، وجعلها سقفا للأرض ، فيها عدة منافع لهم ، ولهذا ذكر من منافعها الشمس فقال سبحانه ( وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ) نبه بالسراج على النعمة بنورها، الذي صار كالضرورة للخلق ، وبالوهاج الذي فيه الحرارة على حرارتها , وما فيها من المصالح , ثم ذكر النعمة الاخرى فقال سبحانه ( وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ) أي: السحب ( مَاءً ثَجَّاجًا ) كثيرا جدا ( لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا ) من برا وشعيرا وذرة وأرزا، وغير ذلك مما يأكله الآدميون وآخر ( وَنَبَاتًا ) يشمل سائر النباتات، الذي جعله الله قوتا لمواشيهم , وفي هذا الما يجعل الله سبحانه ( جَنَّاتٍ أَلْفَافًا ) بساتين ملتفة ، فيها من جميع أصناف الفواكه اللذيذة . فالذي أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة ، التي لا يقدر قدرها ، ولا يحصى عددها إلا هو سبحانه ، كيف تكفرون به وتكذبون ما أخبركم به من البعث والنشور؟! أم كيف تستعينون بنعمه على معاصيه وتجحدونها؟ ولا يزال الحديث موصولا عن تفسير هذه السورة العظيمة فارعوا اسماعكم واحضروا قلوبكم , وتدبروا كلام ربكم لعلكم تفلحون 0 بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم , إنه جواد بر رحيم , وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين 0
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا 0أيها الإخوة المسلمـــــون : لا يزال الحديث عن تفسير سورة البناء : قال سبحانه ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة الذي يتساءل عنه المكذبون، ويجحده المعاندون ، وأنه يوم عظيم ، وأن الله جعله ( مِيقَاتًا ) للخلق كلهم ( يوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ) هذه صورة من صور ذلك اليوم يجري فيه من الأمور العظام ما يشيب له الوليد ، وتنزعج له القلوب ، ( فتسير الجبال سيرا )، حتى تكون كالعهن المنفوش ، وتتشقق السماء حتى تكون أبوابا ، ويفصل الله بين الخلائق بحمكه الذي لا يجور ، وتوقد نار جهنم التي أرصدها الله وأعدها للطاغين ، وجعلها مثوى لهم ومآبا ، وأنهم يلبثون فيها أحقابا كثيرة و الحقب على ما قاله كثير من المفسرين : ثمانون سنة . وهم إذا وردوها ( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ) لا ماء يُبرد جلودهم ، ولا ماء يدفع ظمأهم إنما هو ( حَمِيمًا ) متناهيا في الحرارة ، يشوي وجوههم ، ويقطع أمعاءهم، ومع هذا يشربون ( غَسَّاقًا ) وهو: صديد أهل النار ، الذي هو في غاية النتن ، وكراهة المذاق ، وإنما استحقوا هذه العقوبات الفظيعة ( جزاء وفاقا ) على ما عملوا من الأعمال الموصلة إليها ، لم يظلمهم الله ، ولكن ظلموا أنفسهم ، ولهذا ذكر أعمالهم، التي استحقوا بها هذا الجزاء، فقال سبحانه ( إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ) لا يؤمنون بالبعث، ولا أن الله يجازي الخلق بالخير والشر ، فلذلك أهملوا العمل للآخرة. ( وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ) كذبوا بها تكذيبا واضحا صريحا وقد جاءتهم البينات واضحة وجلية . ثم قال سبحانه : ( وَكُلُّ شَيْءٍ ) من قليل وكثير، وخير وشر ( أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ) أي: كتبناه في اللوح المحفوظ ، فلا يخشى المجرمون أنا عذبناهم بذنوب لم يعملوها، ولا يحسبوا أنه يضيع من أعمالهم شيء ، أو ينسى منها مثقال ذرة، كما قال تعالى: ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) ولهذا قال لهم سبحانه : (فَذُوقُوا ) أيها المكذبون هذا العذاب الأليم والخزي الدائم ( فَلَنْ نَزِيدَكُمْ - فيما أنتم فيه - إِلَّا عَذَابًا ) وكل وقت وحين يزداد عذابهم 0 وهذه الآية أشد الآيات في شدة عذاب أهل النار أجارنا الله منها 0 ثم وصف سبحانه المتقين وما أعد لهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فقال سبحانه : ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ) لما ذكر حال المجرمين وما اعد لهم , ذكر مآل المتقين فقال:( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) أي: الذين اتقوا سخط ربهم ، بالتمسك بطاعته، والانكفاف عن معصيته وما يكرهه فلهم مفاز ومنجي ، وبعد عن نار تلظى . وفي ذلك المفاز لهم : ( حَدَائِقَ ) وهي البساتين الجامعة لأصناف الأشجار الزاهية ، في الثمار التي تتفجر بين خلالها الأنهار ، وخص الأعناب لشرفها وكثرتها في تلك الحدائق . ولهم فيها زوجات على مطالب النفوس ( كَوَاعِبَ ) وهن : النواهد اللاتي لم تتكسر ثديهن من شبابهن ، وقوتهن ونضارتهن , والأَتْرَاب هن اللاتي على سن واحد متقارب، ومن عادة الأتراب أن يكنّ متآلفات متعاشرات، وذلك السن الذي هن فيه ثلاث وثلاثون سنة ، في أعدل سن الشباب . ( وَكَأْسًا دِهَاقًا) أي: مملوءة من رحيق ، لذة للشاربين، ( لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا) أي: كلاما لا فائدة فيه ( وَلَا كِذَّابًا) أي: إثما. كما قال تعالى: ( لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ) وإنما أعطاهم الله هذا الثواب الجزيل من فضله وإحسانه (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ) لهم (عَطَاءً حِسَابًا) أي: بسبب أعمالهم التي وفقهم الله لها، وجعلها ثمنا لجنته ونعيمها 0 ( رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ) أي: الذي أعطاهم هذه العطايا هو ربهم ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الذي خلقها ودبرها ( الرَّحْمَنِ) الذي رحمته وسعت كل شيء، فرباهم ورحمهم ، ولطف بهم، حتى أدركوا ما أدركوا. ثم ذكر عظمته وملكه العظيم يوم القيامة، وأن جميع الخلق كلهم ذلك اليوم ساكتون لا يتكلمون و ( لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، فلا يتكلم أحد إلا بهذين الشرطين: أن يأذن الله له في الكلام ، وأن يكون ما تكلم به صوابا، لأن ( ذَلِكَ الْيَوْمُ) هو ( الْحَقُّ) الذي لا يروج فيه الباطل، ولا ينفع فيه الكذب ، وفي ذلك اليوم ( يَقُومُ الرُّوحُ) وهو جبريل عليه السلام ، الذي هو أشرف الملائكة ( وَالْمَلَائِكَةِ) أيضا يقومون ( صَفًّا ) خاضعين لله ( لَا يَتَكَلَّمُونَ ) إلا بما أذن لهم الله به . فلما رغّب ورهّب، وبشر وأنذر، قال: ( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) أي: عملا، وقدم صدق يرجع إليه يوم القيامة . ( إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا) لأنه قد أزف مقبلا ، وكل ما هو آت قريب . ( يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) من خير أو شر عمله في هذه الدنيا ، وحينها يقول الكافر :( يا ليتني كنت ترابا ) ولا تنفع في ذلك الموقف الاماني 0 فــــ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها , وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة
......... إلى آخر الدعاء 0
|