لا
عدوى ولا طيرة
الخطبة الأولى
إن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ ومن سيئات
أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد
عباد الله:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم، ما ترك شيئا مما يعلمه
خيرا لأمته إلا بيّنه لهم، وما ترك شيئا مما يعلمه شرا لأمته إلا حذّرهم منه.
ومما ورد في
ذلك: حماية النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده جميع الطرق والوسائل
الموصلة إليه.
فمن ذلك ما
رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ ). فهذا نفي من
النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمور الأربعة حماية للتوحيد مما يشوبه ويؤثر فيه، والنفي أبلغ من النهي، لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، وأَمَّا
النَّهْيُ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى المَنْعِ فَقَط.
الأمر الأول: العدوى، والمراد بذلك ما
يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير اللهِ تعالى، وأن هذه الأمور تُعدِي
بطبعها. والمُرادُ: أَنَّه لَيْسَ هناكَ شَيءٌ يُعْدِي، وذلك من أربعةِ أَوْجُه:
أَوَّلُها: الحديثُ الذي سَمِعْتُم ( لا
عَدْوَى ).
الثاني: أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ الواقِعَ، عَرَفَ أَنَّه لَيْسَ هُناكَ ما يُسَمَّى عَدْوَى، وعَرَفَ مِصْداقَ الحديث، فَإِنَّه لَو كان هُناك مَرَضٌ مُعْدٍ، لَرَأَيْتَه إذا نَزَلَ لا يَتْرُكُ
أَحَدًا عَلَى ظَهْرِ الأَرضِ.
الثالثُ: أَنَّك إذا نَظَرْت إِلى هذا
المَرَضِ مِن بابِ النِّسْبَةِ والتَناسُبِ، لَرَأَيْتَ أَنَّه لا يُشَكِلُ
شَيْئًا بِالنِّسْبَةِ لَعَدَدِ السُّكَّانِ، فَكَمْ هِيَ نِسْبَتُه المِئِوِيَّة
بالنِّسْبَةِ لِلْمُصابِين؟ لا تَصِلُ إلى واحِدٍ في الأَلْفِ، بَلْ أَقَلُّ مِن
ذلك بِكَثِير. فَأَيْنَ العَدْوَى؟!!!.
الرابِعُ: أَنَّكَ تَرَى بَعْضَ الأَمْراضِ
المُعْدِيَةِ مُسْتَوطِنًا في بِقاعٍ مُعَيَّنَةٍ لا يَتَعَدَّها، معَ العِلْمِ
أَنَّ سُكّانَ هذي البِقاعِ يُسافِرُونَ خارِجَ بُلْدانِهِم. فَأَيْنَ
العَدْوى؟!!!.
وأما ما يحصل
من انتشار بعض الأمراض، فإنما هو أمر يقدره الله على بعض خلقه ثم يرفعه إذا شاء
وكأنه لم يكن، وهذا أمر مدرك ومشاهد.
روى أحمد
والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا
يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا ثلاثاً، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ: النُّقْبَةُ مِنْ الْجَرَبِ تَكُونُ بِمِشْفَرِ الْبَعِيرِ أَوْ
بِذَنَبِهِ فِي الإِبِلِ الْعَظِيمَةِ فَتَجْرَبُ كُلُّهَا فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَن أَجْرَبَ الأَوَّلَ ؟ لا
عَدْوَى وَلا هَامَةَ وَلا صَفَرَ خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ فَكَتَبَ
حَيَاتَهَا وَمَصَائِبَهَا وَرِزْقَهَا ) .
فأخبر صلى
الله عليه وسلم أن ذلك كله قضاء الله وقدره. وأنه لو كان هناك عدوى كما تزعمون، فمَنْ أعدى البعير الأول؟ ومن أين انتقلت إليه؟
وأما قول
النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يُورَدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ ) ، حتى لا يتوهم
الشخص حين يمرض أن مرضه كان بسبب مخالطته لذلك المريض.
وذلك حماية
لعقيدته من النقص. لأن الله لو أراد سلامة ذلك الشخص لسَلَّمه حتى ولو خالطه، ولو
أراد إصابته بذلك المرض لحصل له ذلك ولو لم يخالطه.
وهذا أيضاً هو
المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعون: ( إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ
بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا،
فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ ).
لأن النفوس
ضعيفة، فلو أن رجلاً دخل هذه الأرض ثم أصابه الطاعون، لقال: لو لم أقدم عليها ما
أصابني مع العلم أن هذا المرض مقدر عليه حتى ولو لم يقدم هذه الأرض.
وكذلك لو أن
رجلا خرج من هذه الأرض ثم سلم من هذا المرض لقال: سلمت من هذا المرض لأني خرجت من
هذه الأرض مع العلم, أن الله سينجيه حتى لو بقي.
وهذا هو سبب
منع النبي صلى الله عليه وسلم من القدوم على أرض الطاعون لمن كان خارجها، أو
الخروج منها لمن هو بها.
بارك
الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور
الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمد
لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا
شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم
تسليماً كثيراً . أما بعد:
عباد الله: الأمر
الثاني في الحديث: الطيرة. والمراد بها التشاؤم بالأيام أو الشهور أو الأشخاص أو
الطيور أو الألوان وما شابه ذلك. ولذلك قال: ( ولا هامة )، وهو طائر البوم حيث
كانوا يتشاءمون به إذا رأوه على أسطح البيوت.
وهكذا قوله: (
ولا صفر ) وهو التشاؤم بشهر صفر.
فمن ترك عملا
يريد القيام به، أو خاف من حدوث شيء يكرهه بسبب اعتقاده ببعض الأشخاص أو الأيام أو
الأرقام أو الألوان فقد وقع في قلبه شيء من الشرك، لأن الأمر بيد الله أولا
وآخراً، فيجب التوكل عليه سبحانه، والثقة به، والاستعانة به في الأمور كلها، مع الاعتقاد
الجازم بأن ما أصاب العبدَ لم يكن ليُخطِئه وما أخطأه لم يكن لِيُصِيبه.
ويجب على
المسلم أن يبذل أسباب تقوية التوحيد في قلبه، فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى،
واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله ، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها ، وبادر
خواطرها من قبل استكمانها .
قال عكرمة:
كنا جلوساً عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير . فقال له
ابن عباس : لا خير ولا شر .
فبادره
بالإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر.
وقد وردت
أحاديث ظن بعض الناس منها أنها تدل على جواز الطيرة: وهي ما يتعلق
بالمرأة والدار والفرس. وليس الأمر كذلك. لأن في بعض ألفاظها أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: ( لو كان الشؤم في شيء لكان في المرأة والفرس والدار ). أي: أن
الأصل هو عدم ذلك، ولو أجيز لكان في هذه الثلاث، وإلا فهو حرام مطلقاً .
اللهم
علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم
اجعلنا من أهل التوحيد الخالص، وأدخلنا الجنة بغير حساب ولا عذاب، اللهم ثبتنا
بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها
من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم آتِ نفوسنا
تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليّها ومولاها، اللهم أعزَّ الإسلام
والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك الموحدين في كل
مكان، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين
اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط
عليهم مَنْ يسومهم سُوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم وفق ولاة أمرنا لما يرضيك،
اللهم وفقهم بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصاراً لدينك, وارزقهم البطانة
الصالحة الناصحة، اللهم حببّ إليهم الخير وأهله وبغضّ إليهم الشر وأهله يا ذا
الجلال والإكرام، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك
بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم
وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى
الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم
الراحمين اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|