حَدَيثٌ
عَظِيمٌ في كَمالِ عَدْلِ اللهِ وأَنَّه لا يَظْلِمُ أَحَدًا
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تَعالَى،
واسْتَعِدُّوا قَبْلَ الْمَوْتِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وتَذَكَّرُوا لِقاءَ
اللهِ، والوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) تَذَكَّرُوا
يَوْمَ القِيامَةِ، وَهُوَ يَوْمُ حِسابِ العِبادِ عَلى أَعْمالِهِمْ، حَيْثُ
يَضَعُ اللهُ الْمَوازِينَ القِسْطَ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، وَيَرَى
الناسُ مَيزانَ العَدْلِ، وَيُوقِنُ الكُفَّارُ بِكِتابِ أعْمالِهِمْ: ( وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا
يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا
حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ).
وَمِنْ مَظاهِرِ عَدْلِ اللهِ سُبْحانَه في ذلكَ اليَوْمِ
العَظِيمِ: إِنْطاقُ
جَوارِحِ الإِنْسانِ، لِتَكُونَ شُهُودًا عَلَيْهِ، رَوَى الإِمامُ مُسْلِمٌ،
عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ رضيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلمَ، فَضَحِكَ فَقَالَ: ( هَلْ
تَدْرُونَ مِمَّا أَضْحَكُ؟ ) قَالَ قُلْنَا: اللهُ وَرَسولُه أَعْلَمُ،
قَالَ: ( مِنْ مُخاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّه. يَقُولُ:
يَا رَبّ، أَلَمْ تُجِرْنِي مِن الظُّلْمِ؟ قَالَ يَقُولُ: بَلَى. قَالَ
فَيَقُولُ: فَإِنِي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شاهِدًا مِنِّي. قَالَ
فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا. وَبِالكِرامِ
الكاتِبِينَ شُهُودًا. قَالَ: فَيَخْتِمُ عَلَى فِيهِ. فَيُقَالُ لِأَرْكانِهِ:
انْطِقِي. قالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِه. قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الكَلَامِ. قَالَ فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ
كُنْتُ أُنَاضِلُ ).
يا لَهُ مِنْ حَدِيثٍ عَظِيمٍ، تَحَدَّثَ
بِهِ الصادِقُ الْمَصْدُوقُ، بَوَحْيٍ مِن اللهِ، وَهُوَ جالِسٌ بَيْنَ أَصْحابِهِ،
فَإِنَّ السَّنَّةَ وَحْيٌ، كَمَا أَنَّ القُرْآنَ وَحْيٌ، قال تَعالَى: ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ
يُوحَى )، وَخَيْرُ مَنْ يُفَسِّرُ هذه الآيَةَ، هُوَ رسولُ اللهِ صلى
اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ، حَيْثُ قال: ( أَلَا إِنِّي
أُوتِيتُ الكِتابَ وَمِثْلَهُ مَعَه )، يَعْنِي السُّنَّةَ. ولِذلكَ قال
حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: " كانَ
جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالسُّنَّةِ، كَمَا كانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالقُرْآنِ ".
وفِي هذا
الحَدِيثِ: يُخْبِرُ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنه، عَن النَّبِيِّ صَلى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّه كانَ جَالِسًا بَيْنَ أصْحابِهِ، فَضَحِكَ لِأَنَّ
اللهَ أَطْلَعَه عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ عَنْ سَبَبِ ذلكَ،
أَلَا وَهُوَ مُخاطَبَةُ العَبْدِ رَبَّهُ، وَهُوَ يُرِيدُ الهُرُوبَ مِن
فَضائِحِهِ، حِينَمَا يَسْأَلُهُ اللهُ عَنْ عَمَلِهِ، فَيَقُولُ لِرَبِّهِ:
أَلَمْ تَعِدْنِي أَنَّكَ لا تَظْلِمُنِّي؟، أَلَمْ تَجْعَلْنِي في مَأْمَنٍ مِنْ
ذلك؟ فَيُجِيبُهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: ( بَلَى )،
فَيَفْرَحُ هذا العَبْدُ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّه سَيَسْلَمُ وَيَنْجُو، فَيَقُولُ:
( فَإِنِي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شاهِدًا
مِنِّي )، أيْ: إِنْ كُنْتَ وَعَدْتَنِي أَنْ لا تَظْلِمَنِي، فَإِنِّي لا
أَقْبَلُ شَهادَةَ أَحَدٍ، ولا أَرْضَى عَلى نَفْسِي إلَّا شاهِدًا مِنِّي.
فَيَقُولُ لَهَ اللهُ: ( كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ
عَلَيْكَ شَهِيدًا. وَبِالكِرامِ الكاتِبِينَ شُهُودًا ). أَيْ: كَفَى
بِأَعْضائِكَ شُهُودًا عَلَيْكَ، فَإِنَّ أَقْرَبَ ما يَكُونُ مِنْكَ هُمْ
أَعْضاؤُكَ: يَدُكَ وَفَخِذُكَ وَلَحْمُكَ وَجِلْدُكَ وَعِظامُكَ، فَيَخْتِمُ
اللهُ عَلى فَمِهِ، ثُمَّ يُنْطِقُ اللهُ أَرْكانَه. كَما قال تعالى: ( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا
أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ )، ثُمَّ يُؤَكِّدُ
شَهادَتَها الكِرامُ الكاتِبُونَ، وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ
وَيُحْصُونَ عَلَى الناسِ أَعْمالَهُم وَيَكْتُبُونَها، قالَ تَعالى: ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ *
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ).
ثُمَّ يَرْفَعُ اللهُ الخَتْمَ عَنْ فَمِهِ،
فَيَقُولُ لِأَعْضائِهِ التي شَهِدَتْ عَلَيْهِ: ( بُعْدًا
لَكُنَّ وَسُحْقًا, فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ )، يَدْعُو عَلى
أَعْضائِهِ وَيَتَبَرَّأُ مِنْها، فَيَقُولُ: هَلَاكٌ لَكُن، فَإِنِّي مِنْ أَجْلِ
سَلَامَتِكُنَّ مِن العَذابِ كُنْتُ أُجادِلُ وأُدافِعُ.
باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه
مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ
لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ
اللهِ: لَقَدْ دَلَّ هذا الحَدِيثُ العَظِيمُ: عَلى أَنَّه
لابُدَّ مِنْ لِقاءِ اللهِ، والوُقُوفِ بَيْنِ يَدَيْهِ، ومُحاسَبَةِ العِبادِ،
فَلَا تَغْفَلُوا وَلا تَسْتَهِينُوا.
وَدَلَّ
أَيْضًا: عَلَى كَمَالِ عَدْلِ اللهِ، وأَنَّهُ لا يَظْلِمُ أَحَدًا،
وَلَكِنَّ الناسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون.
وَدَلَّ
أَيْضًا: عَلَى أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، حَيْثُ
يُنْطِقُ الأَعْضاءَ، فَتَشْهَدُ عَلى صاحِبِها بِمَا عَمِلَ، فَلَيْسَ هُناكَ
مَهْربٌ. وَإذا كُنْتُ تَتَخَفَّى مِن الناسِ عِنْدَ فِعْلِ ما يُسْخِطُ اللهَ،
فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْتَخْفِي مِن نَفْسِكَ؟!! فَإِنَّ أَعْضاءَكَ
سَتَشْهَدُ عَلَيْكَ.
ثُمَّ
اعْلَمْ أنَّ هذه الشَّهادَةَ مِنْ الجَوَارِحِ إِنَّمَا هِيَ في
الأَعْمالِ الظَّاهِرةِ الْمُشاهَدَةِ، وَلَكِنْ هُناكَ ما هُوَ أَعْظَمُ مِن ذلك:
وهُوَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ظاهِرَكَ، وَيَعْلَمُ ما يَدُورُ في نَفْسِكَ. بَلْ
إِنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ: ( يَعْلَمُ السِّرَّ
وأَخْفَى )، أيْ يَعْلَمُ ما تَحَدَّثَتْ بِهِ نَفْسُكَ، وكَذلكَ ما سَوْفَ
تُحَدِّثُكَ بِهِ نَفْسُكَ.
اللهمَّ
ارْزُقْنا خَشْيَتَكَ في الغَيْبِ والشهادَةِ، واقْسِمْ لنا مِنْ خَشْيَتِكَ ما
تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيتِكَ، وارْزُقْنا تَقْواكَ، واجْعَلْنا
نَخْشَاكَ كَأَنَّنا نَراك، اللهم
آتِ نُفُوسَنا تقواها، وزَكِّها أنت خَيْرُ مَنْ زَكَّاها، أَنتَ وَليُّها
وَمَوْلاها، اللهُمَّ خَلِّصْنا مِن حُقوقِ خَلقِك، وبَاركْ لَنَا فِي الحـَلالِ
مِن رِزقِك، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ،
وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ
أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا
دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي
إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ زِيَادةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ،
وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ
الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ،
وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ الْمُسْلِمِيْنَ،
اللهُمَّ ارْفعْ البَلاءَ عَن الْمستضعفينَ مِن الْمُؤمِنين فِي كُلِّ مَكانٍ،
اللهُمَّ احِقنْ دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ عَليكَ
بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون عَبادَك
الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل الأرضَ
مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ يا
قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ وعُدْوانِ
الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم
بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم البِطانةَ الصَّالحةَ
النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ مِنْهُم
وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|