البِرُّ
والإِثْمُ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تَعالَى،
وابْذُلُوا أَسْبابَ الفَوْزِ بِرَحْمَتِهِ، والنَّجاةِ مِنْ عَذابِهِ، واعْلَمُوا
أَنَّ الطَّريقَ إلَى ذلك، هُوَ اتِّباعُ رسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم،
فإِنَّ الطَّريقَ إلى الجَنَّةِ مَسْدُودٌ، إلَّا مِنْ طَريقِ محمدٍ صلى الله عليه
وسلم، قال تعالى: ( فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ
وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ
أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).
عن وابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رضي اللهُ عنه،
قال أَتَيْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: جِئْتَ تَسْأَلُ عَن البِرِّ
والإِثْمِ؟ قال: نَعَمْ. فَقَال: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ: ( البِرُّ
ما اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، واطْمَأَنَّ إِلَيْهِ القَلْبُ. والإِثْمُ ما
حاكَ في النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ، وإِنْ أَفْتاكَ الناسُ وأَفْتَوْكَ
). وفي حَدِيثٍ آخَرَ قال: ( والإِثْمُ ما حاكَ في
نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الناسُ ).
والأَصْل في
البِرُّ: أَنَّهُ اسمٌ جامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَكُلِّ طاعَةٍ.
وهَكَذا
الإِثْمُ: فإِنَّه اسْمٌ جامِعٌ لِكُلِّ ما حَرَّمَ اللهُ، وَأَوَّلُ ما
يَدْخُلُ في ذلكَ، الشِّرْكُ بِاللهِ.
فالبِرُّ
هُوَ: جَمِيعُ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ، وأَوَّلُ
ما يَدْخُلُ في ذلكَ، أُصُولُ الإِيمانِ، ثُمَّ الأَعْمالُ الصالِحَةُ
التي هي ثَمَرَةُ الإِيمانِ، قال تعالى: ( لَّيْسَ
الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى
والْيَتَامَى والْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ
وَأَقامَ الصَّلَاةَ وآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عاهَدُوا
والصَّابِرِينَ فِي البَأْساءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أَولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوْا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) هذا هُوَ البِرُّ
عِنْدَ الإِطْلاقِ.
والإِثْمُ
هُوَ: جَمِيعُ ما حَرَّمَ اللهُ، قال تعالى: ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا
الفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
). وَغَيْرُ ذلِكَ مِنْ الأَدِلَّةِ التَّي ذَكَرَ اللهُ فِيها الحَقُوقَ
والوَاجِباتِ، وَفَصَّلَ فِيها الْمُحَرَّماتِ.
وَجَوابُ النبيِّ صلى اللهُ عَليهِ وسلم لِهذا
الصَّحابِيِّ رضي اللهُ عَنْهُ، لا يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى البِرِّ والإِثْمِ عَلى
سَبِيلِ العُمُومِ، لِأَنَّه يَعْلَمُ أَنَّه مَعْرُوفٌ لَدَيْهِ وَلَدَى
الصَّحابَةِ، لِأَنَّهُمْ قَرأُوا القْرْآنَ، وسَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى
اللهُ عَليه وسلم، وتَعَلَّمُوا مِنْه. فَهُمْ يَعْرِفونَ مَراتِبَ الدِّينِ
وأصُولَ الإيمانِ. وما يَتَعَلَّقُ بِالصلاةِ وأركانِ الإسلامِ. وَما يَتَعَلَّقُ
بِالبِرِّ والصِّلَةِ، وَحَقِّ الْمُسْلِمِ عَلى الْمُسْلِمِ، وَغَيْرُ ذلك مِمَّا
أَمَرَ اللهُ بِهِ وَشَرَعَه، فَلَا يُقالُ في شَأْنِها: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ.
وكذلك يَعْرِفُونَ: الْمُحَرَّماتِ
الواردَةِ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ، والتي أَعْظَمُها الشّرْكُ وَوَسائِلُه.
فَلَيْسَ الْمُرادُ بالإثمِ في سُؤالِ هذا الصحابِيِّ رضي اللهُ عَنْه، ما ثَبَتَ
عِنْدَه تحريمُه، فَإنَّ هذا قَطْعًا لا يَرِدُ السُّؤالُ عَنْه، لِأَنَّ
تَحْرِيمَه مَعْلُومٌ، فَلَيْس بحاجَةٍ إلى أَنْ يَسْتَفْتِيَ فيه أَحَدًا، أَوْ
كذلك ما كانَ تَحْريمُه مَعلومًا من الدينِ بالضَّرُورَةِ.
فالزِّنا لَيْسَ بِحاجَةٍ إلى أَنْ يُنَزَّلَ
عَلَيْهِ ما وردَ في هذا الحديثِ، وهكذا السَّرِقَةُ وَشُرْبُ الخَمْرِ وَعُقُوقُ
الوالِدَيْنِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَسُوءُ الجِوارِ وَالنَّمِيمَةُ والغِيبَةُ
وأَكْلُ الرِّبا والسَّبُّ والشَّتْمُ، وسائِرُ الْمُحَرَّماتِ الثابِتِ
تَحْرِيمُها. لَيْسَ هذا هُوَ الْمُرادُ قَطْعًا، وَلَوْ كانَ هذا الْمُرادُ، ما
أُرْسِلَتْ الرُّسُلُ، ولا أُنْزِلَتِ الكُتُبُ، وَلَتُرِكَ الناسُ يَسْتَقُونَ
الأَحْكامَ مِنْ أَهْوائِهِمْ وما تُمْلِيهِ عُقُولُهُمْ. وإِنَّمَا الْمُرادُ: ما
اشْتَبَهَ حُكْمُهُ وَلَمْ يُعْرَفْ، هَلْ هُوَ مِن البِرِّ أَو الإِثْمِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ
عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تعالى،
واعْلَمُوا أَنَّ الْمُرادَ بِالحَدِيثِ، هُوَ الأَمْرُ الذي لَيْسَ معَكَ دَلِيلٌ
يَخُصُّهُ، ولَيْسَ مَعَكَ وَسِيلَةٌ تَعْرِفُ مِنْ خِلَالِها حُكْمَه. وَهذا
الصَّحابِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْه، لَمْ يَسْأَلِ عَن البِرِّ الظَّاهِرِ الواضِحِ.
ولا الإِثْمِ الظّاهِرِ الواضِحِ. وإِنَّمَا يَسْأَلُ عن الأَمْرِ الذي يَشْتَبِهُ
عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مَعَه دَلِيلٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.
فَإذا أَرَدْتَ أنْ تَعْمَلَ عَمَلًا،
ولَكِنَّكَ لا تَدْرِي أَهُوَ مِن البِرِّ أمْ مِن الإِثْمِ؟ أَهُوَ مُباحٌ أَمْ
حَرامٌ؟ وَلَيْسَ عِنْدَكَ عِلْمٌ أَوْ دَلِيلٌ يَخُصُّ هذا العَمَلَ، وَلَيْسَ
مَعَكَ وَسِيلَةٌ تَعْرِفُ مِنْ خِلالِها الحُكْم، ولَيْسَ عِنْدَكَ مِنْ أَهْلِ
العِلْمِ مَنْ تَسْتَفْتِيهِ. فانْظُرْ إلى مَا وَرَدَ فِي الحديثِ.
لِأَنَّ النُّفُوسَ مَفْطُورَةٌ عَلى
تَقَبُّلِ أحْكامِ الشَّرِيعَةِ، فالبِرُّ:
تَطْمَئِنُّ إليهِ العُقُولُ السليمَةُ. والإِثْمُ:
ما تَرَدَّدَ في صَدْرِكَ، وَلَمْ يَنْشَرِحْ لَه، وَلَمْ تَطْمَئِنَّ إلَيْهِ
نَّفْسُكَ، وَتَكْرَهُ أَنْ تَفْعَلَهُ أَمامَ عُقَلاءِ الناسِ، وأَهْلِ الْمُرُوءَةِ.
فَهذا الحدِيثُ
مُتَعَلِّقٌ بِالوَرَعِ، وَأَمَّا الأُمُورُ الوَاضِحَةُ حِلًّا وحُرْمَةً،
أَوْ التي يَعْرِفُ المُسْلِمُ حُكْمَها، فَلَا تَدْخُلُ فِي الحديثِ، لأَنَّ
أَمْرَها بَيِّنٌ.
فَالأمْرُ الواضِحُ أنه مِن البِرِّ: فإنَّه لا
يُتْرَكُ، حَتَّى لَوْ حاكَ في الصَّدْرِ.
والأَمْرُ
الواضِحُ حُرْمَتُهُ: فَإِنَّه يُتْرَكُ حَتى لَوْ اطْمَأَنَّ إلَيْهِ
القَلْبُ.
والأَمْرُ الذي
تَشْتَبِهُ حالُه: فَهذا هُو الذي يُسْتَفْتَى فيه القَلْبُ السَّلِيمُ
الخاضِعُ لِأَمْرِ اللهِ.
اللَّهُمَّ أَرِنَا الحَقَّ حَقًّا وارْزُقْنا اتِّباعَه، وأَرِنَا
الباطِلَ باطِلًا وارْزُقْنا اجْتِنابَه، وَلا تَجْعَلْهُ مُلِتَبِسًا عَلَيْنا، اللَّهُمَّ
عَلِّمنا مَا يَنفعُنا، وانفعْنا بما عَلَّمْتَنا، وفَقّهِنَا في دِينك يَا ذَا
الجَلالِ وَالإِكْرَام، اللَّهُمَّ استَعْمِلنا في طَاعَتِك، وثَبِّتْنا على دَينِك،
وارزقْنَا الإخلاصَ في أقوالِنا وأعمالِنا، وخَلِّصْنا مِن حقوقِ خلقِك، وباركْ
لنا في الحلالِ مِن رِزقِك وتوفَّنَا مُسلِمِين وألْحِقْنا بالصَّالِـحينَ،
اللهُمَّ احفظْنا بالإِسلامِ قائمينَ واحفظْنا بالإِسلامِ قاعدِين واحفظْنا بالإِسلامِ
راقدِين ولا تُشْمِتْ بِنا أَعداءَ ولا حَاسِدِينَ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ الْمُسلمينَ
حُكَّاماً ومحكُومين، اللهُمَّ أنزلْ على الْمُسلمينَ رحمةً عامَّةً وهدايةً
عامَّةً يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اجمعْ كلمةَ الْمُسلمين على كتابِك
وسُنَّةِ نبيِّك محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، اللهُمَّ اجعلْ كلمتَهم
واحدةً ورايتَهم واحدةً واجعلْهُم يداً واحدةً وقوَّةً واحدةً على مَنْ سِواهُم،
ولا تجعلْ لأعدائِهم مِنَّةً عليهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا
مِمَّنْ يكيدُ لها، وأَعِذْهَا من شرِّ الأشرارِ وكَيْدِ
الفُجَّارِ، اللهُمَّ وَفِّقْ ولاةَ أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّدْهم بتأييدِك،
واجعلهم من أنصارِ دينِك، وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ذا الجلالِ
والإكرامِ، اللهُمَّ اغفرْ للمُسلِمينَ والْمُسلِماتِ والْمُؤمِنينَ والْمُؤمِناتِ
الأحياءِ منهم والأمواتِ ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعَواتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|