ثلاثةٌ لا يكلمهم الله
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ؛ ونعوذُ باللهِ من
شرورِ أنفسِنا ؛ ومن سيئاتِ أعمالِنا ؛ مَنْ يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له ؛ ومَنْ
يُضللْ فلا هاديَ له ؛ وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ؛ وأشهدُ
أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه ؛ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسَلَّمَ
تسليماً كثيراً ،
أما بعدُ :
عبادَ اللهِ ، اتَّقُوا اللهَ تعالى وراقبُوه , واعلموا أنَّه لا
يخفى عليه شيءٌ من أمرِكم .
عن
سلمانَ الفارسيِّ رضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قال
: «ثلاثةٌ لا يُكَلِّمهم اللهُ ولا يزكِّيهم ولهم
عذابٌ أليمٌ ، أُشَيْمِطٌ زانٍ وعائلٌ مُسْتَكْبِرٌ ورجلٌ جعلَ اللهَ بضاعتَه ، لا
يشتري إلا بيمينِه ، ولا يبيع إلا بيمينه» ، رواه الطبرانيٌّ بسندٍ صحيحٍ .
ثلاثةٌ
لَمَّا عَظُمَ ذنْبُهم عَظُمَت عقوبتُهم ، فعُوقِبوا بهذه الثلاثِ التي هي من
أعظمِ العقوباتِ .
أوَّلُهم
: أُشَيْمِطٌ زانٍ ، صَغَّرَه تحقيراً له وذلك لأنَّ داعيَ المعصيةِ ضَعُفَ في
حَقِّه .
والزنا
جريمةٌ كبيرةٌ , تجمعُ خِلَالَ الشَّرِّ كُلَّها , لأنَّها تدلُّ على فسادِ القلبِ
وضَعْفِ الغِيرةِ , والبُعْدِ عن الشَّرَفِ والنزاهةِ والشهامةِ والمروءةِ .
إنه
قرينٌ لأعظمِ مُوبِقَتَين : الشركِ والقتلِ , قال تعالى : ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ .
قال
الإمامُ أحمدُ رحمه اللهُ : لا أعلمُ بعدَ القتلِ ذنباً أعظمَ من الزنا .
ولذلك
اشتدَّتْ عُقُوبتُه في الدنيا والآخرةِ ، ففي الدنيا الجَلْدُ للبِكْرِ , والرجمُ
حتى الموتِ للمُحْصَنِ ، وفي الآخرةِ ما ثبتَ في صحيحِ البخاريِّ عن سَمُرَةَ بنِ
جُنْدُبٍ رضيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال خَبَرَ الرؤيا
الطويلِ : «فانطَلَقْنا فأتينا على
مِثْلِ التَّنُّورِ , أعلاه ضَيِّقٌ وأسفَلُه واسعٌ , فيه لَغَطٌ وأصواتٌ , قال :
فاطَّلَعْنا فيه فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عُرَاةٌ فإذا هم يأتيهم لَهَبٌ من أسفلَ
منهم فإذا أتاهم ذلك ضَوْضَوْا -أي صاحُوا من شِدَّةِ
الحَرِّ- ، فقلت : مَنْ هؤلاءِ يا جبريلُ؟ ، قال : هؤلاء
الزُّنَاةُ والزواني» .
ومن
ذلك ما سمعتُم في الحديثِ , فإنَّ عقوبةَ الزاني تَتَفَاوتُ , وأشدُّها عندما
تَضْعُفُ دواعيها , خصوصاً إذا كان شيخاً كبيراً -وهو الأُشَيْمِطُ الزاني- ،
ذُكِرَ بهذه الصيغةِ تصغيراً وتحقيراً له , لأنَّ داعيَ المعصيةِ ضعيفٌ في حَقِّه
, فدلَّ على أنَّ الحاملَ له على الزنا مَحَبَّةُ المعصيةِ والفُجُورِ , وعدمُ
خوفِه من اللهِ ، وضَعْفُ الداعي إلى المعصيةِ مع فعلِها يُوجِبُ تغليظَ العقوبةِ
عليه .
الثاني
: عائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ ، والعائلُ هو الفقيرُ ، وإنْ كان الكِبْرُ محَرَّمَا على
الجميعِ , قال اللهُ العليُّ الكبيرُ في الحديثِ القدسيِّ : «الكبرياءُ ردائي ، والعَظَمَةُ إزاري ، فمَنْ
نازَعَني واحداً منهما قذفتُه في النارِ» ، رواه
مُسْلِمٌ من حديثِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه ، وقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ
عليه وسَلَّمَ : «يُحشَرُ المتكبِّرون
يومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ في صورِ الرجالِ يغشاهم الذُّلُّ من كلِّ مكانٍ
يُسَاقُون إلى سجنٍ في جهنَّمَ يُسَمَّى بُولُس تعلوهم نارُ الأنيارِ ، يُسْقَون
من عُصَارةِ أهلِ النَّارِ طِينَةِ الخَبَالِ» ، رواه الترمِذِيُّ من حديثِ عبدِ
اللهِ بنِ عمروِ بنِ العاصِ رضيَ اللهُ عنه .
ودواعي
الكِبْرِ كثيرةٌ كالـمُلْكِ والجاهِ والمالِ والمنصبِ والجمالِ والعِلْمِ , وهو
محرَّمٌ تحريماً شديداً مهما كانت دواعيه , ولكنْ يشتَدُّ التحريمُ ويَعْظُمُ
الذَّنْبُ إذا حصلَ مِـمَّنْ ليس له ما يدعوه إلى الكِبْر والتعالي كالفقيرِ ,
لأنَّ الفقيرَ لا داعيَ له إلى أنْ يستكبرَ ، لأنَّ استكبارَه مع عدمِ الداعي إليه
يدُلُّ على أنَّ الكِبْرَ طبعٌ له كامنٌ في قلبِه ، فَعَظُمَتْ عقوبتُه لعدمِ
الداعي إلى هذا الخُلُقِ الذميمِ الذي هو من أكبرِ المعاصي .
اللهُمَّ اهدِنَا لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسنِها إلا أنت ،
واصرفْ عنَّا سيِّئَها لا يصرفُ عنَّا سِيِّئَها إلا أنت ، واغفرْ لنا ولوالدينا
ولجميعِ المسلمين إنَّك أنت الغفورُ الرحيمُ .
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانِه ، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه ،
وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ محمَّدا عبدُه ورسولُه
، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسَلَّمَ تسليماً كثيراً ، أما بعدُ عبادَ
الله :
الثالث
في الحديث : رَجُلٌ جعلَ اللهَ بضاعتَه لا يشتري إلا بيمينِه ولا يبيعُ إلا
بيمينِه ، أي أنَّه يجعلُ الحَلِفَ باللهِ هو الـمُرَوِّجَ لسلعتِه , أو الجالبَ
للسلعةِ , وليس الصدقَ والأمانةَ .
والمسلِمُ
يتأثَّرُ إذا حُلِفَ له باللهِ , وقد يشتري وهو لا يريدُ , أو يبيعُ وهو لا يريدُ
، فينبغي للمسلمِ أنْ يحفظَ لسانَه عن كثرةِ الحَلِفِ مطلقاً ، لعمومِ قولِه تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾
، ومن هذه الطريقةِ على وجهِ الخصوصِ، لا سيَّما وأنها سببٌ
لـِمَحْقِ بركةِ المكاسِبِ ، روى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه
قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ : «الحَلِفُ مُنْفِقَةٌ
للسلعةِ مُـْمحِقَةٌ للربحِ» ، وفي رواية: «مُـمْحِقَةٌ للبركةِ»
.
اللهُمَّ عَلِّمْنا ما ينفعُنا وانفعْنا بما علَّمْتَنا يا ذا
الجلالِ والإكرامِ ؛ اللهُمَّ طَهِّرْ قلوبَنا من النفاقِ وأعمالَنا من الرياءِ
وألسِنَتَنا من الكذبِ وأَعْيُنَنَا من الخيانةِ إنك تعلمُ خائنَةَ الأعينِ وما
تُخْفي الصدورُ .
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ
وَالْمُسْلِمِيْنَ ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ
الْمُوَحِّدِيْنَ ، اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ الْمَهْمُومِيْنَ مِنَ
الْمُسْلِمِيْنَ ، وَنَفِّسْ كَرْبَ الْمَكْرُوبِيْنَ ، وَاقْضِ الدَّيْنَ عَنِ
الْمَدِينِيْنَ ، وَاشْفِ مَرْضَاهُمْ ، وَاغْفِرْ لِمَوْتَاهُم .
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا
وَأَصْلِحْ وُلَاةَ أُمُورِنَا .اللهمّ اغفرْ للمسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .
|