موعظة سورة النعم
الحمد لله ذي الجلال والجمال، والعظمة والكمال، وذي العطايا والنوال؛
أحمده تبارك وتعالى حمد الشاكرين، وأثني عليه ثناء الذاكرين، أحمده سبحانه حمدًا كثيرًا
طيبًا مباركًا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده
حتى أتاه اليقين؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أيها
المسلمون: اتقوا الله تعالى وتدبروا القرآن واتعظوا به، فإن لكل سورة من سور
القرآن طابع في موعظتها.
ومن
سور القرآن المكية العظيمة (سورة النحل)، من سور الْمِـئِين.
تُسمّى
(سورةَ النعم)، لأنها وعظٌ من الرب الأكرم، بتعداد جملة كثيرة من النعم، يمتن بها
على العباد، ليتفكروا فيها، وليتذكروا خالقها المنعم المتفضل بها، فيعترفوا
بإنعامه، واستحقاقه للحمد والشكر والذكر، والإفراد بالعبادة.
ولقد
ذكر الله في أول السورة أصول النعم وقواعدها، وذكر في وسطها وآخرها، متمّماتها
ومُكملاتها.
عباد
الله: أول النعم التي افتتح الله بها السورة، وافتتح بها أصول النعم:
نعمة
إنزال الوحي على الرسل، ليبلِّغوه للعباد، وليدعوهم إلى تحقيق لا إله إلا الله، ويعرفوهم
بالطريق الموصل إلى الله.
وسمى
الوحي (رُوحاً) لأنه به تحيا أرواح العباد، وبه تتحقق سعادتهم في الدارين.
وجميع
النعم التي أنعم الله بها على العباد، إنما هي من أجل أن يحققوا هذه الغاية التي لها
خُلقوا، تحقيقِ لا إله إلا الله.
ثم
يمتنّ الله بنعمة خلق السماوات والأرض، السماوات لأهل العالم العلوي، والأرض لأهل
العالم السُّفلي، خلقها بالحق لا عبثاً ولا لعباً ولا باطلاً.
ثم
يمْتنّ بخلق أشرف خلقه في الأرض، وهو الإنسان.
ثم
ذكر نعمة خلق الأنعام من أجل خدمة الإنسان: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ)،
لأجل ما فيها من المنافع والمصالح المتعددة لكم:
- الأكلِ
من لحومها. - ودفءِ المصنوعات من جلودها. - وجمالِها حين سرحها ورواحها. - وحملِها
للأثقال المسافات البعيدة الشاقة.
والأنعام:
هي الإبل والبقر والغنم.
ثم
يذكر الله تعالى تسخيره للخيول والبغال والحمير ليركبها الناس ويتزيّنوا بها،
ولولا تسخير الله لها ما ذلّت وانطاعت للإنسان.
ويمتنّ
الله على العباد بخلقه ما لا يعلمون من أنواع المراكب في مستقبل الأزمان (وَيَخْلُقُ
مَا لَا تَعْلَمُونَ) وفيه الإشارة إلى المراكب الحديثة.
ويمتنّ
بنعمة إنزال الماء من السماء للشراب ولإنبات العشب للدواب، وإنبات الزرع وشجر
الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من شجر الثمرات.
ويمتنّ
سبحانه بتسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، فلكل منها منافع لا يستغني
عنها العباد في دينهم ودنياهم.
ويمتنّ
تعالى بما بثّه في الأرض من ألوان المخلوقات من الحيوانات والأشجار والنبات، مما
تختلف ألوانه، وتختلف أيضاً منافعه للعباد.
ويمتنّ
بتسخير البحر للعباد، يأكلون من لحوم أسماكه وحيتانه ومخلوقاته الطرية، ويستخرجون
منه اللآلئ والجواهر والأحجار التي يصنعونها حُليّـاً يلبسونها.
ويمتن
عليهم بتسخيره البحر لحمل السفن والمراكب البحرية الصغار منها والكبار، فتجري فيه بين
الأمواج واللجج، وتصل إلى غاياتها القريبة والبعيدة.
وتتوالى
الآيات في تعداد النعم وامتنان الرب المنعم المتفضل بها.
فيَذْكر
اللهُ جلّ في علاه إلقاء الجبال الرواسي في الأرض، من أجل أن تثبت ولا تتحرك ولا
تضطرب بالناس.
ومن
رحمته جعل في الأرض أنهاراً جارية بالماء العذب، يسوقه المسافات الطويلة ليكثر
المنتفعون بها وتكثر منافعها من مشرب وسقاية أنعام وزرع وغيرها من المنافع.
وجعل
في الأرض السبل، وهي الفجاج والطرق والممرات التي يسلكها الناس في تنقلهم من مكان
إلى مكان، ومن بلد إلى بلد.
ويمتنّ
سبحانه بما ييسره من لبن الأنعام الخالص السائغ للشاربين، يخلقه من بين فرث ودم لا
شائبة فيه ولا رائحة كريهة.
ويمتن
بما ييسره من ثمرات النخيل والأعناب من المنافع والمصالح والرزق الحسن، منه ما
يؤكل طرياً طازجاً، ومنه ما يقبل أن يكون مُدّخراً، ومنه ما يُشرب عصيراً.
ويمتنّ
سبحانه بتيسير الشراب الذي يخرج من بطون النحل، وهو العسل المختلف الألوان، وجعله
سبحانه شفاء للناس طيباً.
ويمتنّ
على البعض بتفضيلهم في الرزق على غيرهم.
ويمتنّ
بخلق الزوجات، ورَزْق البنين والْحفدة والتي هي من زينة الحياة.
ويمتن
تعالى برَزْقِنا الطيبات.
ويمتنّ
بجعل الأسماع والأبصار والأفئدة أدوات لتلقي العلم، فبعد أن أخرجنا من بطون
أمهاتنا لا نعلم شيئا أبداً، تعلمنا من خلال هذه الأدوات.
ويمتنّ
الله علينا بالبيوت المبنية، وجعلها لنا سكناً، تسكن فيها أرواحنا وجوارحنا.
وأيضاً
يمتنّ علينا ببيوت الشعر من جلود الأنعام وأشعارها وأوبارها، فتكون بيوتاً متنقلة.
وامتنَّ
علينا بما متّعنا به من الأثاث والأمتعة المصنوعة من الأصواف وأوبار وأشعار
الأنعام.
ويمتنّ
بظلال الأشجار والجبال ونحوها.
ويمتنّ
الله بالجبال التي يسَّرها للناس يستخدمونها حصوناً ومعاقل، ويأوون إلى مغاراتها
لِـتُـكِــنّـُهم من الحر والبرد والمطر والشمس والهواء.
ويمتنّ
الله سبحانه بما يسره لنا من الثياب والألبسة التي تقينا الحر.
ولم
يذكر هنا الثياب التي تقي البرد، لأنه ذكرها في أول السورة من أصول النعم (لَكُمْ فِيهَا
دِفْءٌ).
ويمتنّ
أيضاً بنعمة الألبسة التي تقي من البأس والضرر، كضرر أسلحة الحروب من الدروع
ونحوها، ففي الحديد بأس شديد، وفي سرابيل الحروب ما يقي من هذا البأس.
حقاً
إنها سورة النعم، وما أحوجنا للتدبر والتفهم.
فاللهم لك الحمد ولك الشكر ولك الثناء الحسن على نعمك الظاهرة
والباطنة التي لا تحصى، اللهم ما أصبح وأمسى بنا من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك
وحدك لا شريك لك. بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من المواعظ
والحكمة ، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية:
الحمد لله على نعمه التي تُعد فلا تُحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى،
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تمسّك بسنته واقتفى، وسلّم تسليماً كثيراً،
أما بعد:
عباد
الله:
وعظنا
ربنا تعالى بتعداد نعمه، لنتفكر ونتذكر ونعترف ونشكر ونذكر ونوحد ونسلم وجوهنا
لله.
بعد
أن ذكر الله تعالى أصول النعم في أول السورة قال: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، فكيف تعبدون من لا يستحق العبادة ممن لا يخلق، وتتركون
عبادة من يستحقها وهو من يخلق، أفلا تذكرون.
ثم يأتي
بعد ذلك قولُ الله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)، أي:
لا تَقْدِرُوا على إحصائها فضلاً عن القيام بشكرها، لذا يشرع لنا أن نسأل ربنا أن
يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته دبر كل صلاة.
وفي
موضع آخر من السورة يقول سبحانه: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ).
وفي
موضعين من السورة، وبعد ذكر بعض النعم يقول مُبيـّـناً الحكمة من ذكرها: (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ).
وفي
ختام التعداد يقول: (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)،
فتستسلمون له بالتوحيد وتنقادون له بالطاعة.
وفي
عدةِ مواضع من السورة يهدد الرب تبارك وتعالى المنكرين لنعمائه.
وفي
أكثر من موضع وبين ثنايا تعداد النعم يُـذكّـر بالقضية الكبرى، (قضية التوحيد) الغايةُ
من الخلق، عبادته وحدَه لا شريك له، لأجلها خلق اللهُ ورزق وأنعم بهذه النعم، قال
تعالى: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، وقال: (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ
اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)، ويذكــر أنه
بعث في كل أمة سولا ليدعو الناس إلى هذه القضية الكبرى، التوحيد فقال: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
ويثير
العباد إلى عبادته وحده والخضوع له، فيذكرهم بعبودية جميع الخلائق وخضوعها له
سبحانه، وسجودها له صاغرين داخرين، وكذلك الملائكة المقربون، يسجدون ولا يستكبرون
ويخافون ربهم ويفعلون ما يؤمرون، فاعبده يا أيها الإنسان
كل
ذلك من أجل أن يُسلِــم العبادُ لربهم، ويعبدوه ويوحدوه ويحبوه، فالنفوس مجبولة
على حب من أحسن إليها، وأيضاً ليتبرؤوا من الشرك والكفر به وبنعمة، (كَذَلِكَ
يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ).
وتختم
السورة بختام رائع، سيكون موضع خطبتنا القادمة إن شاء الله.
اللهم لك أسلمنا وبك آمنا وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، فاغفر لنا
وارحمنا وثبتنا، ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا اللهم أعنا على ذكرك
وشكر وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين .
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك،
اللهم ادفع وارفع واصرف عنا الوباء والبلاء، وقنا شر الأدواء يا سميع الدعاء. اللهم
إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، اللهم إنا نعوذ
بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك اللهم إنا نعوذ بك من البرص
والجنون والجذام وسيئ الأسقام يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم تغمدنا ووالدينا برحمتك إنك أنت أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك
رحمة تصلح بها قلوبنا وتفرج بها كروبنا وتيسر بها أمورنا وتشفي بها مرضانا ، وترحم
بها موتانا يا أرحم الراحمين . اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله
ولا تكلنا أنفسنا طرفة عين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا
التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل
خير والموت راحة لنا من كل شر. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات . اللهم اغفر للمسلمين الميتين وجازهم
بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفواً وغفراناً .
اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم
لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام واجزهم خيراً على ما
يقدمونه لخدمة الإسلام والمسلمين يا رب العالمين .
اللهم ادفع عن بلادنا مضلات الفتن، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين
وعدوان المعتدين ومن كل شر وفتنة يا خير الحافظين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا
غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا
عذاب النار
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين
.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |