بث الأمل من مواعظ قصة يوسف عليه السلام
12 / ذو القعدة / 1441
((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ
يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا))، كتاباً مباركاً، أحمده سبحانه أن جعلنا من أمة اقرأ، وأشكره
جل جلاله على نعمه التي لا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، جل وتعالى،
وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ورسوله المرتضى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه
بإحسان وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد ...
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن أكثر الناس انتفاعاً بهدي القرآن
هم المتقون، قال جل وعلا، ((ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ))
أيها
الناس: لنهتدِ بالقرآن، فربنا الرحمن يقول: ((نّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ
أَقْوَمُ))،
عباد
الله: من روائع القصص القرآني التي فيها الهدى والبيان: (قصة يوسف) عليه السلام، قصها
الله علينا في (سورة يوسف) فاستغرقت السورةَ كلَّها، بأحسن سياق وأفصح لسان.
وكان
نزولها في العهد المكي، الذي لاقى فيه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون صنوفاً من
العذاب والشدائد والكروب، فنزلت السورة لتسليهم، وجبر قلوبهم، وبث الأمل بالفرج في
نفوسهم، ولتبشرهم بأن العاقبة للمتقين الصابرين، وأن الله لا يضيع أجر المحسنين.
فمن
هدايات قصة يوسف ومواعظها الجليلة مما نحن بأمس الحاجة إلى الانتفاع والاهتداء والاتعاظ
به في أحوالنا الحالية: بث روح الرجاء بالله، وحسن الظن بالله، وصناعة الأمل وبعث نسماته
في قلوب المؤمنين، وإثارة نفحات التفاؤل بالظفر بالمرغوب، وزوال الكروب.
أيها المسلمون: يحل في قلب المتدبر لأحداث قصة يوسف:
ــ
الأمل بأن الغائب سيعود، والمفقود سيوجد، وأن الشمل المتفرق سيجتمع، فقد عاد يوسف لأبيه
المجروح، واجتمع شمل الوالدين والأبناء بعد سنين طوال، فلا تيأسوا يا مؤمنون من روح
الله ولو طال أمد البلاء.
ــ
وفي القصة: الأمل ببراءة المتهم المظلوم، ولو كان المتآمرون
المتَّهِمون أصحابَ النفوذِ وعليةَ القوم، فقد أظهر الله براءة يوسف من مراودة النساء،
وسخر الله له سبباً ليس بالحسبان وهو (تعبير رؤيا).
ــ
وفي القصة: الأمل بإطلاق الأسير، وخروج السجين، ولو
بعد حين وسنين.
ــ
وفي القصة: الأمل بالعز بعد الذل للمؤمن المحسن الكريم، فالعاقبة للمتقين، والله لا
يضيع أجر المحسنين، فالكريم يوسف عليه السلام انتقل من رقيق لا يملك، وسجين لا يتحرك،
إلى عزيزِ مصر، وزيرٍ للمال من رجال الملك الخاصين، يتبوأ من بلاد مصر ما يشاء لأنه
مكين أمين.
ــ
وفي القصة: الأمل بشفاء المريض، ومعافاة المبتلى، وإبصار
الأعمى، ((فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا))
ــ
وفي القصة: الرجاء والأمل بأن الحزن سيزول، والمحزون
سيفرح ويسعد، فتأملوا مضمون قول الله تعالى ((وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ
عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)) ثم مآل الأمر
في قوله تعالى: ((فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ
ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ () وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ))
ــ
وفي القصة الرجاء والأمل بأن القحط والجدب وشدائد السنين،
ونقص الأموال والثمرات، سيعقبها أعوام الغيث والسعة والخيرات، ولكن الناس يستعجلون،
ويسمعون لإرجاف المرجفين.
ــ
وفي القصة الأمل بأن الحاسد سيعود ويتوب، ويعترف بالفضل
للفاضل المحسود، وكونه يستحق أن يعلوا ويكرم ويسود، والله تعالى يقبل توبة من يتوب،
((قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ)).
ــ
وفي القصة: الأمل عموماً بأن الكروب ستزول، فقد زالت
كروب يعقوب بعد صبر الجميل، وزالت كروب يوسف كرباً بعد كرب بلطف الكريم الرحيم بعد
تقوى وصبر وإحسان.
وكثيراً
ما يُضَمِّنُ اللهُ الكروب مِنَنَاً، والمحن منحاً، فالاسترقاق كان معه الإكرام في
بيت العزيز والتهمة والسجن سنين، كان معه تبوؤ منصب الوزير والتمكين.
أيها المسلمون: عِظَمُ الرجاءِ والأملِ بالله، من العبادات القلبية الجليلة،
فعظموا الرجاء بربكم وتفاءلوا بالخير تجدوه في حياتكم، واحذروا من اليأس والقنوط، مهما
اشتدت الخطوب، فقد جاء في القصة نصحُ يعقوب لبنيه بعدم اليأس والقنوط: ((وَلَا تَيْأَسُوا
مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ))
والله
تعالى قد يُـؤخر النصر والفرج إلى أن تضيق الحال جداً وتشتد الكروب، ابتلاءً واختبارا،
ثم ينزل النصر والفرج بعد ذلك، فإذا اشتد الكرب، قرب الفرج، كما أن أشد الظلام يعقبه
الفجر.
قال
الله تعالى في ختام السورة: ((حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ))
فيا
عباد الله اصبروا وصابروا وانتظروا الفرج من الله فإنها من العبوديات الجليلة التي
يحبها الله ويرضى بها.
اللهم اجعل لنا من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل بلاء عافية،
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني الله وإياكم بما فيهما من الآيات
والحكمة، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو
الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلاماً على عبده الذي اصطفى، وعلى آله وأصحابه
وعلى كل من اقتفى، وسلم تسليماً، أما بعد:
من هدايات قصة يوسف عليه السلام:
أن لتقوية الرجاء والأمل بالله في القلوب أسباباً ووقوداً،
من هذه الأسباب:
ــ
اليقين بموعود الله مع حسن الظن بالله، فقد كان يعقوب يقول في وجه البلاء: ((وَأَعْلَمُ
مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)) ويقول: ((بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا))،
والله عند ظن العبد به.
ــ
ومنها: الصبر الجميل الذي لا تسخط معه ولا تشكي فيه، فقد قال يعقوب مرتين: ((فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ))
والإمامة
في الدين لا تُنَال إلا بالصبر واليقين، فتأمل ما جرى على يوسف من كروب على مدى عشرين
سنة، وكيف اتقى الله وصبر على المر، وأيقن بالقضاء والقدر، والعاقبة الإمامة والظَّفَر.
ــ
ومنها: الاستعانة بالله، ففي القصة: ((وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ)).
ــ
ومنها بث الشكوى إلى الله ففيها تفريغ الهموم، قال يعقوب: ((إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي
وَحُزْنِي إِلَى اللَّه)).
ــ
ومنها: الإحسان، إحسان العقيدة والعبادة والمعاملة، فقد تكرر وصف يوسف بأنه من المحسنين
ثلاث مرات.
ــ
ومنها: تقوى الله ومخافته، جاء على لسان يوسف: ((إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ))
اللهم املأ قلوينا بالأمل والرجاء وحسن الظن بك يا رحمن يا منان يا
ذا الجلال والإكرام..
اللهم أنزل السكينة على قلوبنا. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكّها أنت
خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم قنعنا بما رزقتنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا
ولا مبلغ علمنا يا أرحم الراحمين.. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن
من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللَّهُمَّ إِنّا نسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ
عَلَى الرُّشْدِ، وَنسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَنسْأَلُكَ
شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَنسْأَلُكَ قَلوبَاً سَلِيمَةً، وَألسَنَاً
صَادِقَةً، وَنسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ،
وَنسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ. اللَّهُمَّ إِنِّا
نسْألُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ
مِنْ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
اللهم ادفع وارفع واصرف عنا الوباء والبلاء، وقنا شر الأدواء يا
سميع الدعاء. اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة
الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك
اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام وسيئ الأسقام. اللهم آمنّا في أوطاننا
ودورنا ، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم
للبر والتقوى وبصّرهم بأعدائهم والمتربصين بهم واجزهم خير الجزاء على ما يقومون به
من خدمة للحرمين الشريفين ونصرة الإسلام والمسلمين يا ذا الجلال والإكرام
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا
غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله
أكبر والله يعلم ما تصنعون.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح
العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|