زاد سفر الآخرة (البرزخ والقيامة)
27 / شوال / 1441
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ
من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا
هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ
ورسولُهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ))
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا
أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ
فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))، أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن
الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة
ضلالة .
أيها المسلمون : إننا في سفر وارتحال إلى الله والدار الآخرة، حياتنا الدنيا هي مرحلتنا
الأولى وفيها جمع الزاد، ويتلوها مرحلة البرزخ ومرحلة الآخرة.
أيها الناس: تزوّدوا بالصالحات، قبل الفوات،
فإنه إذا حل الأجل، وجاءت ساعة الموت، فسينقطع العمل، وسينتقل العبد إلى الحياة البرزخية،
رقاد القبور الطويل، وسيكون مرتهناً بعمله، لذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ
يَتَمنَّيَنَّ أحدُكُمُ الموتَ، ولا يدْعُ بهِ من قَبْلِ أنْ يَأْتِيَهُ، إنَّهُ إذا
ماتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وإنه لا يزيدُ الْمؤمِنَ عُمُرُهُ إلا خَيْراً) أخرجه مسلم
وفي القبر سيبدأ انتفاع العبد بزاده
الذي جمعه في الدنيا (من الإيمان والعمل الصالح)
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ،
فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ،
فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ)) متفق عليه
يبقى زاده الذي جمعه، سيبقى معه في قبره، يأتيه العمل في قبره يؤنسه ويبشره
ويُفْرِحُهُ.
يقول النبي صلى الله عليه
وسلم عن المؤمن في قبره: " وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ،
طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي
كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ،
فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، كُنْتَ وَاللَّهِ سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ
بَطِيئًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا(( صحيح أخرجه أحمد وأبو
داود
أيها المسلمون: كان السلف الصالحون يستشعرون عظيم شأن الانتقال إلى الحياة
البرزخية والأخروية، ويدركون أن زاد هذه الحياة هي ما حصله المرء في الدنيا من أعمال
صالحة.
لقد بكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرض موته، فقيل له: ما يبكيك فقال:
"أَبْكِي لِبُعْدِ سَفَرِي وَقِلَّةِ زَادِي!! وَإِنِّـي أَصْبَحْتُ فِي صُعُودٍ
مَهْبِطُه عَلَى جَنَّةٍ أَوَ نَارٍ، فَلاَ أَدْرِي إِلَى أَيْتُهـا يُسْلَكُ بِي ".
[رواه أحمد في الزهد وابن المبارك في الزهد والبيهقي في الشعب 10684 وابن
أبي الدنيا].
وَلما حضرت الْوَفَاةُ فُضَيْلَ بنَ عِيَاض رَحمَه الله غُشِيَ عَلَيْهِ
ثمَّ أَفَاق وَقَالَ يَا بُعْدَ سَفَرِي وَقلة زادي [ذكره عبدالحق الأشبيلي في العاقبة].
فإذا كان هذا قول من كثر زاده، فماذا يقول من قل زاده أمثالنا، وكيف ستكون
حسرة المفرط في الزاد؟ إنه سيبكي لحَسْرَةِ الفَوْت؛ وقدومه على دارٍ لا زادَ له فيها.
يا جامع المال ما أعددت
للحُفَرِ ... هَل يُغْفِلُ الزادَ مَنْ أضْحَىَ على السفر؟!
وكان كثير من السلف يبكون عند وفاتهم، حسرة وحزنا على انقطاعهم عن الصوم
والصلاة والتلاوة والصدقات، وغيابهم عن الصالحات.
عباد الله: وسيكون في أهل القبور أمواتٌ مميزون، تستمر لهم، وتنهمر عليهم
حسنات أعمال صالحة، وهم رقود في قبورهم، لآثارهم الطيبة التي أبقوها في الحياة بعد
مماتهم، فأبقت لهم الذكر الحسن كمن ورث علماً نافعاً، أو هدى متبعاً، أو صدقات جارية،
وكمن خلَّفوا أولاداً صالحين يدعون لهم، فما أسعدهم بآثارهم، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ، انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ
جَارِيَةٍ، أَوْ عَمَلٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) صحيح
أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن خزيمة وغيرهم بهذا يغبط المرء والله.
عباد الله: فإذا قامت القيامة، ظهرت آثار الزاد الحسن (الإيمان والعمل
الصالح)، وسطعت أنوارهما.
وقدم المؤمنون على الله آمنين مكرمين، ((لا يَحْزُنهم الفَزَعُ الأكبر
وتتلقاهم الملائكة)) تتلقاهم فتبشرهم وتطمئنهم.
وأحسن الزاد وأنفع الحسنات يوم الدين وأثقلها في الميزان، حسنة الإخلاص
والتوحيد، قال ربنا المعبود: ((مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم
مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ))
وفي عرصات القيامة يستظل فريق من المؤمنين في ظل صدقاتهم التي أخلصوها
لله وأخفوها عن الخلق إرضاء لله، وآخرون في ظل أعمال صالحة وُعِدُوا أن يكون جزاؤهم
عليها الظل يوم لا ظل إلا ظل الله.
وستشفع الأعمال الصالحة لأصاحبها، وستظهر آثارها على وجوههم فتكون مسفرة
ضاحكة مستبشرة.
ستقدم أمة محمد صلى الله عليه وسلم غراً من آثار السجود، محجلين من آثار
الوضوء.
وستجري بالناس أعمالهم على الصراط، كلٌ بقدر عمله.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل: ((وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ
وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ
كَالْبَرْقِ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ
عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي
بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ
سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ
السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا "، قَالَ: «وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ
مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنِ اُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ»
فاللهم وفقنا للعمل بما ينجينا ويسعدنا ويرضيك، اللهم اقسم لنا من خشيتك
ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، يا رحمن يا رحيم يا ذا
الجلال والإكرام، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم
ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الْحَمْدُ لله الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ؛
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيِنِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَا الله وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ؛ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا، أَمَا بَعْدُ:
يا
أهل الإيمان : أما نور سفر الآخرة، فالإيمان نور، والصلاة نور، والصبر ضياء، والقرآن
نور، والذكر نور، وتلاوة سورة الكهف يوم الجمعة نور، وأعمال صالحة أخرى أنوار، تشحن
الآن هذه الأيام.
وسيمشي
المؤمنون في ظلمات القيامة بأنوارهم تسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وأنوارُهم على قدر
إيمانهم وأعمالهم الصالحة، ((يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم))
(فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا
مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ،
حَتَّى يَكُونَ رَجُلٌ يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِه، يُضِيءُ مَرَّةً،
وَيُطْفِئُ مَرَّةً، فَإِذَا أَضَاءَ قَدَّمَ قَدَمَهُ فَمَشَى، وَإِذَا طُفِئَ قَامَ)
(الطبراني 9763 ) صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب.
وسيدخل
الجنة أناس مؤمنون بغير حساب ولا عذاب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، لحسن زادهم فأحسن
الله جزاءهم، ((لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ
قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ))
وسيحط
المتزودون بالصالحات رحالهم نهاية مسيرهم في دار الكرامة ومستقر الرحمة جنات النعيم،
ويقتسمون المنازل والدرجات حسب أعمالهم.
فيا
أيها المؤمنون: سارعوا وسابقوا وتنافسوا في العمل للآخرة، وتزودوا لسفركم الطويل، فالعمر
قصير محدود، وما مضى منه لا يعود، والسابق إلى الله مكرم محمود، وكما قال ابن الورد:
إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
اللهم وفقنا لتدارك بقايا الأعمار، والتزود من الصالحات والاستكثار،
اللهم أيقظ قلوبنا من رقدات الآمال ، وذكِّرنا قربَ الرحيل ودنوَّ الآجال ، وثبت قلوبنا
على الإيمان ، ووفقنا لصالح الأعمال، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها ، وخير أعمارنا
آخرها ، وخير أيامنا يوم لقائك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه
في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم أعنا ولا
تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا،
وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شاكرين.. لك ذاكرين.. لك راغبين.. لك راهبين.
اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، ويسر أمورنا، وطهر قلوبنا،
واسلل سخيمة قلوبنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وجماعتنا واستقرارنا وعافيتنا وصحة أبداننا، اللهم ادفع وارفع واصرف عنا الوباء والبلاء، وقنا شر الأدواء
يا سميع الدعاء. اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة
الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك اللهم
إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام وسيئ الأسقام. اللهم إنا نسألك أن تكفينا شر
الأوبئة والأمراض. اللهم احفظنا واحفظ بلادنا وبلدان المسلمين من كل سوء ومكروه. اللهم
آمنّا في أوطاننا ودورنا ، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى
وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وبصّرهم بأعدائهم والمتربصين بهم يا ذا الجلال والإكرام
.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا لا
تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، ربنا اغفر لنا ولوالدينا
وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله
أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح
العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|