السفر
إلى الله والدار الآخرة
20/شوال/1441
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ
من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا
هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً
عَبدُهُ ورسولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد:
أيها المسلمون :
اتقوا الله تعالى وكونوا
من طلاب الآخرة، ولا تغرنكم الحياة الدنيا ((ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن
فأولئك كان سعيهم مشكورا))
عباد الله: اعلموا أننا
في هذه الحياة في سفر وارتحال إلى الله والدار الآخرة، سفرنا بعيد ورحلتنا طويلة حتى
نصل إلى نهايتها، ونهايتها إما روضات الجنات، أو الجحيم والدركات.
سفرنا هذا
له ثلاثة مراحل:
المرحلة الأولى/ الحياة
الدنيا، من ولاة الإنسان إلى مماته. وهي مرحلة التزود بزاد السفر.
المرحلة الثانية/ الحياة
البرزخية، من موت الإنسان إلى يوم البعث والنشور. رقدة القبور
المرحلة الثالثة/ القيامة
والحياة الأخروية وفيها نهاية الرحلة، من البعث من القبور والنفخ في الصور إلى دخول
أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
ومن إشارات القرآن لسفر
الآخرة، قول الله تعالى: ((وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) فقد
أمر الله الحجاج بأن يتزودوا لسفرهم للحج بزاد المسافر من الطعام والشراب ونحوهما،
فقال: ((وَتَزَوَّدُوا))
ثم نبههم على زاد سفر
الآخرة، وهو التقوى فقال: ((فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى))
فنحن يا عباد الله في
ارتحال وسفر وإدلاج إلى الله، فارُّون من الله إلى الله.
وحديثي اليوم عن المرحلة
الأولى من مراحل سفر الآخرة
أيها المسلمون: المسافر
يحتاج إلى زاد، وراحلة، ونور لظلمات سفره، ويحتاج إلى معرفة بالطريق.
وزادُ سفر الآخرة ونورُه
هو الإيمان والعمل الصالح والتقوى، كما دلت على ذلك آية سورة البقرة في الحجاج، ((وَتَزَوَّدُوا
فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى))، فكما أن المسافر سفراً حسياً لا بد له من زاد
يبلغه مقصده، فكذلك المسافر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا بد له من زاد وهو التقوى:
الإيمان والعمل الصالح، فكم قرن الله بينهما وبين أنهما سبب الفوز والفلاح وسبيل النجاة.
قَامَ أَبو ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: مَنْ أَرَادَ
مِنْكُمْ سَفَرًا مِنْ أَسْفَارِ الدُّنْيَا، فإنه لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِزَادٍ!
فَكَيْفَ مَنْ يُرِيدُ سَفَرَ الْآخِرَةِ بِلَا زَادٍ.
قَالُوا: وَمَا زَادُنَا
يَا أَبَا ذَرٍّ؟ قَالَ: صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ لِوَحْشَةِ الْقُبُورِ،
وَصَوْمٌ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ لِيَوْمِ النُّشُورِ، وَصَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ لَعَلَّكُمْ
تَنْجُونَ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ عَسِيرٍ، وَحَجٌّ لِعَظَائِمِ الْأُمُورِ.
عباد الله: ورواحلنا
في سفرنا إلى الله والدار الآخرة: هي أجسادنا وأرواحنا، أجسادنا بأعضائها وجوارحها،
من قلب وعقل وما حوى الرأس والبطن وسائر الجوارح والأعضاء. فالجسد والروح هما المطية
في هذا السفر العظيم، فلنحسن السير بهما.
يقول بعض السلف: ما
رأيت أبدانكم إلا مطاياكم إلى ربكم عز وجل، ألا فانصبوها في طاعة الله.
وزمان جمعِ الزاد وشحنِ
الأنوار لسفر الآخرة، هو الأيام والليالي في هذه الحياة الدنيا، المرحلة الأولى للسفر.
قال داود الطائي لأصحابه
وعيناه تدمعان: الليل والنهار مراحل تنزل بالناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي بهم ذلك إلى
آخر سفرهم، فإن استطعتم أن تُقَدِّمُوا في كل مرحلة زاداً لما بين أيديكم فافعلوا،
فإن انقطاع السفر عن قريب.
وكان محمد بن واسع إذا
قيل له كيف أصبحت يقول: ما ظنك برجل يرحل كل يوم إلى الآخرة مرحلة.
ومر صلة بن أشيم بشباب
يلهون ويلعبون فقال لهم: أخبروني عن قوم أرادوا سفراً فحادوا عن الطريق في النهار،
وناموا في الليل، متى يقطعون سفرهم ؟.
أيها الناس: لقد عرَّفنا
الله بالطريق الموصل إليه، وبين لنا أن الطريق الموصل إليه مستقيم وواضح، وأمرنا بلزوم
السير فيه ونهانا عن الانحراف عنه فقال سبحانه: ((وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا
تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به)).
ومن رحمة الله بنا وفضله
علينا أن فرض علينا أن نسأله سبحانه أن يهدينا صراطه المستقيم في كل ركعة من صلاتنا،
عندما نقرأ: ((اهدنا الصراط المستقيم)) وشرع لنا التأمين الجماعي عليه لشدة حاجتنا
إليه.
فينبغي علينا عند هذا
الدعاء أن نستشعر أننا سائرون إلى الله على طريق رسمه لنا، ونستحضر أننا نسأل ربنا
أن يوفقنا للاستقامة والثبات عليه، وأن يهدينا إلى تفاصيل السير فيه، وَنذْكُرْ بِالْهُدَى
هِدَايَتَنا الطّرِيقَ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون:
سفرنا إلى
الله والدار الآخرة له إرشادات ومعالم:
أولها: أن المسير في
هذا السفر لا يتوقف، فعباد الله المؤمنون مستمرون في السير إلى الله، عاملون ساعون،
لا يتوقفون عن العمل في ليلهم ونهارهم وغدوهم ورواحهم وفي شهورهم وأعوامهم كلها، مستمرون
حتى يأتيهم الموت فيلقون ربهم، كما أمر الله بقوله: ((واعبد ربك حتى يأتيك اليقين))
وقال: ((يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه))
لكن في مواسم الطاعات
تنشط همة العابدين وتقوى عزيمتهم ويشمرون ويجتهدون في السير ويتسابقون في الصالحات
ويكثرون الطاعات، كما في شهر رمضان، وفي عشر ذي الحجة.
يزيد هذا وضوحاً وتأكيداً
الإرشاد الثاني: وهو أن صفة المسير في سفر الآخرة الموصلة إلى الغاية هي: صفة التوسط
والاقتصاد في العبادة البدنية، بالمداومة على العمل الصالح وإن قل، وألا يكلف المؤمن
نفسه ما لا تطيق، كما وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ
عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا،
وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ)) متفق
عليه واللفظ لمسلم
وقال صلى الله عليه
وسلم: ((وَاسْتَعِينُوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة))، وقال: ((والْقَصْد الْقَصْد
تبلغوا)) يعني داوموا السير إلى الله ووزعوا أعمالكم على الأوقات الثلاثة أول النهار
وآخره وفي الليل، مع الاقتصاد في العبادة، فمن فعل ذلك بلغ المقصود ونال رضى الرب المعبود،
وكرامته في جنات الخلود.
والعناية تكون بإتقان
العبادة وإحسانها، لا بكثرتها وطولها، فالابتلاء والاختبار إنما هو واقع بهذا، قال
الله تعالى: ((الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا))
وأحسن الأعمال ما كان
خالصا لله، موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ
بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ
اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ
للهِ الدَّائمِ توفيقُه, المتواترِ عطاؤُه وتسديدُه, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ
الله وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تَعظِيماً لشأنه، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحمّدًا عَبدُهُ
وَرَسُولُهُ الدَّاعِي لِرِضْوَانِهِ، وَالْهَادِي إِلَى إِحْسَانِهِ، صَلّى اللهُ
عَلْيِهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسلّمَ تَسْلِيماً كَثِيْراً إِلَى يِوْمِ
لِقَائِهِ . أما بعد:
الإرشاد الثالث للسفر
إلى الله والدار الآخرة: أن الاجتهاد الأكبر يجب أن يكون في إتقان الأحوال والأعمال
القلبية، فإنَّ سفر الآخرة يقطع بشكل أسرع بسير القلوب مع اقتصاد في سير الأبدان، فأفضل
الناس وأحسنهم سيراً هم من سلك هذا الطريق، وهذا هو طريق محمد صلّى الله عليه وسلم
وخواص أصحابه رضوان الله عليهم.
فعلى العبد المؤمن أن
يعتني عناية فائقة بالأعمال القلبية فيسعى لتحقيق التوحيد، ويعتني بالإخلاص، ويسعى
للوصول لمرتبة اليقين في الإيمان، ويزيد من علمه بالله، ويُعْمِل قلبه بمقام المرقبة
لله، ويُقبل بقلبه على الله في عباداته فيقيم قلبه على خشية الله، وإجلاله، ومحبته،
ورجائه، ودعائه، والتوكل عليه والإعراض عما سواه، وينكسر له ويخضع، ويمقت نفسه في ذات
الله، ويشهد تقصير نفسه، ويتهمها مهما عمل، ويتضرع لله بسؤال القبول، ويحذر من العجب
ومن الرياء والسمعة.
الإرشاد الرابع من معالم
سفر الآخرة: أن أحب ما يتقرب به العبد إلى ربه تبارك وتعالى هو أداء الفرائض بإتقان،
قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ
إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)) البخاري
فعليك أيها المؤمن الموفق
أن تجتهد في إتقان فرائض دينك، فيكون شغلك الشاغل قبل عمل النوافل: بإقامة الصلوات
الخمس على الوجه الذي يرضي الرب سبحانه، فهي من أوثق وأثبت خطوات السير إلى الله، وهكذا
بقية الفرائض، الزكاة والصوم والحج والعمرة وغيرها.
اللهم
حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من
الراشدين. اللهم
أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم
اجعلنا من عتقائك من النار إنك أنت العزيز الغفار ، اللهم حرم أجسادنا على النار. رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللهم
يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم ، اللهم
إنا نبرأ إليك ممن سفك دماء المؤمنين وأزهق النفس الزكية بغير حق , اللهم انتقم ممن
سفك دما محرما ، اللهم أدر دائرة السوء عليه , اللهم اجعل كيده في نحره , اللهم سلط
عليه من يأخذ الحق منه للمظلومين من عبادك المؤمنين .
اللهم
ادفع عن بلادنا مضلات الفتن ، اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء وفتنة فاجعل
كيده في نحره يا قوي يا متين .
اللهم
ادفع وارفع واصرف عنا الوباء والبلاء، وقنا شر الأدواء يا سميع الدعاء. اللهم
إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك اللهم
إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام وسيئ الأسقام. اللهم
إنا نسألك أن تكفينا شر الأوبئة والأمراض.
اللهم
احفظنا واحفظ بلادنا وبلدان المسلمين من كل سوء ومكروه. اللهم
آمنّا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ
بنواصيهم للبر والتقوى وبصّرهم بأعدائهم والمتربصين بهم يا ذا الجلال والإكرام . اللهم
احفظ رجال أمننا وقوي عزائمهم وأعذهم من شر الأشرار وكيد الفجار يا ذا الجلال
والإكرام .
اللهم
يا حي يا قيوم انصر جُندنا المرابطين على حدود بلادنا، اللهم سدد رميهم واربط على قلوبهم
وثبت أقدامهم وأنزل عليهم النصر من عندك يا قوي يا متين، اللهم من مات منهم فتقبله
في الشهداء يا رب العالمين ، ومن أصيب فألبسه ثياب الصحة والعافية يا لطيف يا رحيم
يا كريم.
اللهم
تقبل منا إنك أنت السميع العليم واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم .
عباد
الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
وللمزيد
من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا: http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|