من
مقاصد فرائض الإسلام
الخطبة
الأولى
إِنَّ الْحَمْدُ للهِ
نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ
أَنَفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ
لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَد أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا عَبْدهُ وَرَسُولهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾
أما بعد:
فإنَّ أصْدَقَ الحديثِ
كِتَابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ
محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةً، وكلَّ بدعةٍ ضلالةً، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ،
أعاذنَا اللهُ مِنَ النارِ.
عباد الله: مِنْ
أَسْمَاءِ رَبِّنَا جَلَّ جَلَالُهُ، وتَبَارَكَتْ أَسْمَاؤهُ، وتَعَالَى جَدُّهُ،
اِسْمُهُ الحَكِيمُ سُبْحَانَهُ، فَلِلّهِ الحُكْمَ ولَا حُكْمَ لِغِيْرِهِ،
وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِيِن، ولَهُ الْحِكْمَةُ البَالِغَةُ فِي قَضَائِهِ
وحُكْمِهِ القَدَرِيِّ، كَمَا أَنَّ لَهُ الْحِكْمَةَ البَالِغَةَ فِي أَمْرِهِ
وحُكْمِهِ الشَّرْعِي ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ
الْحَاكِمِينَ﴾
ومِنْ أَمْرِ اللهِ
سُبْحَانَه وحُكْمِهِ الشَّرْعِي، أنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ شَرَع فَرَائِضَ
الإِسْلَامِ وعِبَادَاتِهِ العَمَلِيَّةَ العِظَامَ (الصلاةَ والزكاةَ والصيامَ
والحجَّ) لِتَكُونَ أرْكَاناً لِلدِّينِ لا يَقُومُ إسلامُ العبدِ إلا بِها، ولَمْ
يجْعَلْها الحكيمُ سُبْحانَهُ طُقُوسَاً جَوْفَاءَ لا رُوحَ ولا مَعْنَى لَهَا،
ولا حَرَكًاتٍ مفرغةً لا مَضْمُونَ لها، ولا أقْوَالاً وأَفْعَالاً مُجَرَّدَةً لا
حِكْمةَ لها، بَلْ جَعَلَ لِكلِّ فَرِيضَةٍ مِنْها حَقِيقَةً عَمِيقَةً، ومَعَانٍ
رَفِيعَةً، وحِكَمَاً وأسْرَارَاً بَدِيعَةً، ومقاصِدَ وغَايَاتٍ عَالِيَةً،
مَطْلُوبٌ مِنَ العَبْدِ المُؤْمِنِ أنْ يَعِيشَ رُوحَهَا ويَتَمَثَّلَ
غَايَاتِها، وتَظْهَرَ آثَارُهَا عَلى حَيَاتِهِ وسُلُوكِه.
ولِفَرَاِئضِ
الإسْلَامِ مَقَاصِدُ وغَايَاتٌ مُشْتَرَكَةٌ، يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ
اسْتِشَعَارُهَا
مِنْهَا: وهُوَ
أسَاسُهَا وأعظَمُهَا وآكَدُهَا: مَقْصَدُ تَحْقِيقِ
العُبُودِيَّةِ للهِ، والعُبُودِيَّةُ للهِ وحَدَهُ هي الغَايَةُ مِنْ خَلْقِنَا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، أي: لِيُوَحِّدُون، فَمَقْصُودُ الفَرَائضِ
الأَوَّلِ تحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وشهَادَةِ أَلَّا إِلَه إِلا الله، وهِيَ
الشَّهادَةُ الَّتِي بِها أَسْلَمْنَا واسْتَسْلَمْنَا وآمَنَّا، رُكْنُ
الإسْلَامِ الأوْلِ.
فَحَقُ اللهَ
الأعْظَمُ على العِبَادِ: أنْ يَعْبُدُوهُ، ولا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وأنْ
تَتَوَجَّهَ وجُوهُهُمْ وقُلُوبُهُمْ وأَجْسَادُهُمْ إليْهِ بِالقَصْدِ
والإِخْلَاصِ، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ مائلين مبتعدين
عن كل ملة غير ملة التوحيد ﴿حُنَفَاءَ
لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾﴿قُلْ إِنَّ
صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ () لَا
شَرِيكَ لَهُ﴾﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين﴾
فَيَا عَبْدَ اللهِ
حَقِّقِ التَأَلُّهَ لِرَبِّكِ بِغَايَةِ الحُبِّ والخُضُوعِ والتَّعْظِيمِ،
واسْتَشْعِرْ وأنْتَ تُصَلِّي وتَصُومُ، وأنْتَ تُزَكِّي وتَحُجُّ، اسْتَشْعِرْ
قِيَامَكَ بِالعُبُودِيَّةِ والتَّوْحِيدِ وتَحْقِيقَكَ للغايةِ الَّتِي مِنْ
أجْلِهَا خُلِقْتَ، فَالمَضْمُونُ الأَسَاسُ لِهَذِهِ الفَرَائِضِ هو تَحْقِيقُ
التَّوحيدِ، ومِنَ التوحيدِ الدُّعاءُ والافْتِقَارُ إلى اللهِ، وهِي مُشْتَمِلَةٌ
على ذَلك، والدُّعاءُ هو العِبَادَةُ، ومُشْتَمِلَةٌ أيْضَاً عَلَى أذْكَارِ التَّوْحِيدِ
مِنْ تَهْلِيلٍ وتَكْبِيرٍ وتَسْبِيحٍ وحَمْد.
ومِنْ مَقَاصِدِ
وغَايَاتِ الفَرَائِضِ: إقَامَةُ ذِكرِ اللهِ تَعَالى، وإدَامةُ
الصِّلَةِ بِه.
فمَطُلُوبٌ مِنَ
العَبْدِ أنْ يَكونَ دائمَ الذِّكْرِ للهِ عزَّ وجَلَّ؛ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ
كَثِيراً بِلِسَانِهِ وقلْبِهِ وجوارِحِهِ، في أحوالِهِ كلِّها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا
كَثِيرًا﴾ في شَبَابِهِ وهَرَمِهِ، فِي قُوَّتِهِ وضَعْفِهِ، وصِحَّتِهِ
ومَرَضِهِ، فِي غِنَاهُ وفَقْرِهِ، ويُسْرِهِ وعُسْرِهِ، في حِلِّهِ وتَرْحَالِهِ،
في قِيَامِهِ وقُعُودِهِ واضْطِجَاعِهِ، فَصِفَةُ أُولِي الأَلْبَابِ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ﴾ ووصيَّةُ رسولِ اللهِ
صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: "لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ
اللهِ"، وفِي خِتَامِ الصَّلَاةِ يُسْتَحَبُّ أَنْ تَدْعُو: "اللَّهُمَّ
أعِنِّي علَى ذِكْرِكَ"
فمِنْ أجْلِ إقامَةِ
ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ودَوَامِ الصِّلَةِ والاتِّصَالِ بِهِ، نُصَلِّي
ونُزَكِّي ونَصُومُ، ونَحُجُّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِمُوسَى علِيهِ السَّلَامُ: ﴿إِنَّنِي
أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
لِذِكْرِي﴾ رُكُوعٌ وسُجُودٌ وقِيَامٌ وقُعُودٌ
بِأَذْكَارٍ مَخْصُوصَةٍ، هَذِهِ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ، وقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ فَسَمَّى
اللهُ الخُطْبَةَ والصَّلَاةَ ذِكْرَاً.
ومِنْ تَقْوَى اللهِ
الَّتِي يُحَقِّقُهَا الصِّيَامُ، إِدَامَةُ ذِكْرِهِ، وبينَ الصِّيامِ وتِلاوَةِ
القُرْآنِ رَابِطٌ وثِيقٌ.
ومَنَاسِكُ الحَجِّ
كُلُّهَا ذِكْرٌ للهِ، ومَا شُرِعَتِ إلا لإقامةِ ذِكْرِ اللهِ بأفْعَالِها،
وأقوالِها: كَالتَّلْبِيَةِ، وذكرِ الطَّوَافِ وركْعَتَيْهِ، وذِكْرِ مَا فَوْقَ
الصَّفَا والمَرْوَةِ وذِكرِ يومِ عرفةَ وفَجْرِ مُزْدَلِفَةَ، ويومَ العِيْدِ
عِنْدَ ذَبْحِ الهَدَايَا، تَهْلِيلٌ وتَحْمِيدٌ وتَكْبِيرٌ، وتَسْمِيَةٌ للهِ: ﴿
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا
رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ والتَّكْبِيرُ
أيَّامَ العَشرِ والتَّشْرِيقِ، والذِّكْرُ والدُّعَاءُ عِنْدَ رَمِيِ الجَمَراتِ، ﴿وَاذْكُرُوا
اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾
وبَعْدَ ذَلِكَ: ﴿فَإِذَا
قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ
أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾.
وذِكْرُ اللهِ مِنَ
التَّوْحِيدِ والْعُبُودِيَّةِ للهِ ﴿وَلَذِكۡرُ
ٱللَّهِ أَكۡبَرُ﴾.
فَحَقِّقُوا هَذِهِ
الْغَايَةَ لِفَرَائِضِكُمْ، بِإدَامَةِ ذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ أحْوَالِكُمْ،
بِألْسِنَتِكُمْ وقُلُوبِكُمْ وجَوَارِحِكُمْ.
وَمِنْ مَقَاصِدِ
وَغَايَاتِ الْفَرَائِضِ: تَحْقِيقُ شُكْرِ اللَّهِ عَلَى
نِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَالْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ،
الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّة.
الشُّكْرُ للهِ عَلَى
نِعْمَةِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَنِعْمَةِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ
وَالْعَافِيَةِ والأمْنِ، وصُنُوفِ النِّعَمِ وَالْأَرْزَاقِ، وَأَعْظَمُهَا
نِعْمَةُ الْهِدَايَةِ لِلْإِسْلَامِ، وَأَن اصْطَفَاك اللهُ وَجَعَلَكَ فِي
عِبَادِةِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِينَ بِعِبَادَتِهِ، المَوْعُودِينَ
بِالْفَوْزِ الْأَبَدِيّ بِالرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ وَالرِّضْوَانِ وَدُخُولِ
الْجِنَانِ؛ بَيْنَمَا ملايِينُ الْبَشَرِ كَافِرُونَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ﴿بَلِ
اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾ وقالَ
تَعَالى: ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ وقال: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾.
فالمؤمنُ يُقَدِّمُ شُكْرَهُ
للهِ بِالتِزَامِهِ بِصَلَاتِهِ وزكاتِهِ وصِيَامِهِ وحَجِّهِ، فاسْتَحْضِرُوا
عبادَ اللِه هَذِهِ الغَايَةَ مِن العِبِادَةِ.
وَمِنْ مَقَاصِدِ
وَغَايَاتِ الْفَرَائِضِ: تَزْكِيَةُ
النَّفْسِ وَتَطْهِيرُهَا، وَتَهْذِيبُ سُلُوكِهَا.
فَالصَّلَاةُ تَنْهَى
عَن فَوَاحِش ومَنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ، ﴿وَأَقِمْ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ وتُنَقِّي
النَّفْسَ مِنَ الكِبْرِ وتُربِّي على الأدبِ مَعَ اللهِ، وتَزِيدُ في الإيمانِ
فتَسْتَثِيرُ النَّفْسَ إلى شُعَبِهِ الجَمِيلَةِ.
و"الصِّيامُ
جُنَّةٌ، فإذا كانَ يومُ صَومِ أحَدِكُمْ، فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ" رواهُ
البُخَارِي ومُسْلِمٌ، "ومَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ
فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنَّ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ" وَمِنْ
مَقَاصِدِهِ تَحْقِيقُ التَّقْوَى بِخِصَالِها الْمُتَعَدِّدَة: ﴿لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ﴾
والحَجُّ مَدْرَسَةٌ
لِلصَّبْرِ على المَشَاقِّ، والسَّخَاءِ في الإنْفَاقِ، والحِلْمَ، والسَّكِينَةِ،
والتَّعَاوُنِ والرَّحْمَةِ بَيْنَ المُؤْمِنينَ: ﴿الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا
فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾
وفي الزَّكَاةِ
طَهارَةٌ وزكاءٌ: ﴿خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ تَتَطَهَّرُ
بها النَّفْسُ مِنْ أدْرَانِ البُخْلِ والشُّحِ،
والأنَانِيَةِ، والقَسْوَةِ القَلْبِيَّة، وتُرَبِّي عَلَى الإحْسَاسِ والشُّعُورِ
بالأخَرِينَ، ومُوَاسَاتِهِم.
وَالْفَرَائِضُ
بِمَواقِيتِها وَأَحْكَامِهَا تُعَلِّمُنَا احْتَرامَ الوَقْتِ وتَنْظِيمَهُ،
وتُعَلِّمُنَا الانْضِبَاطَ وَاحْتِرَامَ النِّظَامَ الْعَامَّ.
فَالْعِبَادَةُ
عِبَادَ اللَّهِ عَلاقَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَالسُّلُوكُ
عَلاقَة بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِذَا كَانَتْ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ
الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ عِلاقَةٌ حَسَنَةٌ، انْعَكَسَتْ بِالْحُسْن عَلَى
الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْعِبَادِ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي
وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات
والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحَمْدُ للهِ رَبِّ
العَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والصَّلَاةُ والسَّلامُ عَلَى النَّبِيِ
الكَرِيمِ الأمِينِ، مُحَمَّدِ بنِ عَبُدِاللهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أجْمَعِينَ
أمَّا بَعْدُ
أيُّهَا
المُسْلِمُونَ: وَمِنْ مَقَاصِدِ وَغَايَاتِ الْفَرَائِضِ: التَّدْرِيبُ وَالتَّرْبِيَةُ عَلَى
تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَاجْتِنَابِهَا، وَهُوَ فَرْعٌ عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ
وَتَطْهِيرِهَا وَتَهْذِيبِ خُلُقِهَا، قَالَ النَّبِيُ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ
وسَلَّمَ: "اتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أعْبَدَ النَّاسِ" صَحِيحٌ
أخْرَجَهُ أحْمَدُ والتِرْمِذِيُ وابْنُ ماجَهْ.
فَالصَّلَاَةُ تَنْهَى
عَنِ فَوَاحِشِ وَمُنْكِرَاتِ الْأَعْمَالِ بِأثَرِهَا الْإيمَانِيِّ الْعَمِيقِ
عَلَى نَفْسِ الْمُصَلِّي وَبِتَعْزِيزِهَا لِلْخَشْيَةِ والْحَيَاءِ مِنَ اللهِ،
وَالتَّعْظِيمِ والْمُرَاقَبَةِ لَهُ.
وَالصِّيَامُ
اِمْتِنَاعٌ عَنِ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ
طِيلَةَ النَّهَارِ، وَفِي ذَلِكَ تَدْرِيبٌ وَتَرْبِيَةٌ عَلَى تَرْكِ الْحَرَامِ
عَلَى الدَّوَامِ.
وَالزَّكَاةُ
تُرْبِيَّةٌ عَلَى تَرْكِ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ، وَتَدْرِيبٌ علَى تَرْكِ الْمَنِّ
بِالْعَطَاءِ.
وَفِي الْحَجِّ
إِحْرَامٌ وَمَحْظُورَاتٌ أَثْنَاءَهُ، وَهِي فِي الْأَصْلِ مُبَاحَاتٍ.
وَدَاخِلُ حُدودِ
الْحَرَمِ الَّذِي هُوَ مُوَاطِنُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ يَمْتَنِعُ الْحَاجُّ مِنْ
أُمُورٍ هِي فِي الْأَصْلِ مُبَاحَاتٍ، وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الَّتِي يَقَعُ
فِيهَا الْحَجُّ يَعْظُمُ فِيهَا إِثْمُ الْمُحَرَّمَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ تَدْرِيبٌ
عَلَى تَرْكِ الْحَرَامِ عَلَى الدَّوَامِ، ﴿الْحَجُّ
أشْهُرُ مَعْلُومَاتٍ فَمَنْ فَرَضَ فِيهنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ
وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ "وَمَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ
يُفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" وَالْفُسُوقُ يَشْمَلُ عُمُومَ
الْمَعَاصِي. وَالْمُحَرَّمَاتِ.
وَمِنْ مَقَاصِدِ
وَغَايَاتِ الْفَرَائِضِ: غُفْرَانُ الذُّنُوبِ وَتَكْفيرُ السَّيِّئَاتِ
الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْفَلَاَحِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ.
فَالصَّلَوَاتُ
الْخَمْسُ مُنَقِّيَاتٌ مِنَ الذُّنُوبِ تَنْقِيةَ مَاءِ نَهْرِ غَمْرٍ لِجِسْمٍ
مَنْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمِ خَمْسَ مَرَّاتٍ.
"وَمَنْ صَامَ
رَمَضَانَ إيمَانًا وَاِحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ"، وَالزَّكَاَةُ طُهْرَةٌ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ،
"وَالْحَجُّ
يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ" وَيَرْجِعُ
الْحَاجُّ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أَمُّهُ نَقِيَّا مِنَ الذُّنُوبِ.
فَاُطْلُبُوا هَذَا
الْهَدَفِ مِنْ فَرَائِضِكُمْ، وَاِحْتَسِبُوا عَلَى رَبِّكُمْ فَهُوَ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ.
واحْذَرُوا أنْ
تَتَحَوَّلَ العِبَادَاتِ إلى عَادَاتٍ جَوْفَاء لا رُوحَ فِيها ولا خُشُوعَ ولا
اسْتِشْعَار، فَقَدْ ذَمَّ اللهُ أهْلَ الكِتَابِ الذِينَ طَالَ علَيْهِم الأمَدُ
وقَسَتْ قُلُوبُهُم.
وَاعْلَمُوا
رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ مَنْ قَامَ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي
يُرْضِي اللهُ، نَالَ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ، ﴿مَنْ
عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
اللهم أعنا على ذكرك
وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا مقيمين للصلاة وللفرائض على الوجه الذي يرضيك
عنا، اللهم تقبل صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وحجنا، واعف عنا زللنا وتقصيرنا، وخطأنا
وعمدنا، ولا تؤاخذنا بنسيانِنَا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه
إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين المهتدين، اللهم اجعلنا لك
شكارين لك ذكارين لك رهابين لك مطواعين، إليك مخبتين أوَّاهين منيبين، اللهم اغسل
حوباتنا، واقبل توباتنا، وأجب دعواتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واهد قلوبنا،
واسْلُلْ سَخَائِمَ صُدُورِنا.
اللهم صلى على محمد
وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى
آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم وارض عن صحابته الكرام
وتابعيهم بإحسان وعنا معهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمنا في أوطاننا
وأصلح أئمتنا وولاتنا، وبدِّل حالنا إلى الحال التي ترضيك.
اللهم اغفر لنا
ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة
وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد
لله رب العالمين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا : http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|