عبر
من قصة أصحاب السبت 06 -03 -1442
الحمد لله الذي هدانا
للإيمان، وعلمنا القرآن، ويسر لنا من فهم مواعظه ما به نعتبر ونسلك طريق الرضوان،
ونجتنب العصيان، أشهد أن لا إله إلا هو الحكيم العليم الحليم الرحيم الرحمن، وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة وتركنا على محجة بيضاء في
غاية البيان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماَ ما تعاقبت الأزمان. أما
بعد:
فاتقوا الله أيها
المؤمنون وتدبروا مواعظ الكتاب، واعتبروا بما قص الله علينا من قصص الأولين،فلنا فيها
موعظة وذكرى وعبرة.
من
هذه القصص: (قصةُ أصحاب السبت)، التي قال الله تعالى في شأنها: ((فَجَعَلْنَاهَا
نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ))
وملخص
ما ذكره المفسرون من قصتهم: أن قرية اسمها (أيلةُ)، على ساحل بحرِ القلزمِ (البحرِ
الأحمر)، وعلى خليج العقبة بالتحديد، كان يسكنها قوم من (اليهود)، وكان الله قد شرع
لليهود تعظيم يوم الجمعة فضلوا عنه، فأبدلَهم مكانه يومَ السبت، فَشَرَعَ لهم في
يوم السبت التفرغَ للعبادة، وحرمَ عليهم العمل فيه، فحرمَ عليهم صيدَ السمك فيه.
فأراد
الله تعالى أن يبتليهم، ويختبر تقواهم، ومجاهدتهم لأنفسهم، وصبرهم على طاعته وعن
معصيته، وعدم تعديهم حدوده.
فابتلاهم
الله بأن جعل السمك يأتي يوم السبت على شاطئهم (شُرَّعا)ً ظاهراً فوق الماء قريباً
وكثيراً، يسهل عليهم صيده جداً، وإذا انتهى يوم السبت لم يأت من السمك شيء ولم يظهر
في شاطئ البحر، وصعب عليهم صيده بل ولا يحصلون منه شيء.
قال
الله تعالى: ((وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ
الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ
سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ
نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)).
واستمر
هذا الحال زمناً، وطال عليهم الأمر، فنَفِد صبرُ بعضهم، وسولت لهم أنفسهم، وزينت
لهم شياطينهم، فاحتالوا على حرمة الله، فنصبوا شباك الصيد يومَ الجمعة، وحفروا بِرَكاً
على الشاطئ، حتى إذا جاء السمك يومَ السبت علِق في الشباك ووقع في البرك فلم يستطع
أن يخرج منها، فيأخذونه بعد انقضاء السبت، ليلةَ ويومَ الأحد، ويقولون لأنفسهم:
نحن لم نصطد يومَ السبت، فاحتالوا على الحرام.
فعل
بعضهم ذلك، ثم اقتدى بهم آخرون، وآخرون، حتى فشا فيهم العُتُوُّ عن أمر الله، والاحتيالُ
على حرمة الله.
وطائفة
منهم صالحون، أخذوا ينصحونهم ويعظونهم، ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر،
ولكنهم لم يسمعوا النصح ولم ينتفعوا بالتذكير، وتمادوا وأصروا.
بل وأصبحوا
يصطادون يوم السبت مباشرة وعلانية، والطائفة الناصحة مستمرة في النصح والتذكير
والإنكار، ولا فائدة.
وطائفة
ثالثة منهم لم يقعوا في الحرام، ولكنهم أنكروا الفعلة بقلوبهم، وكانوا يقولون
لإخوانهم الناصحين: لم تنصحون هؤلاء؟ اتركوا نصحهم، فإنهم معتدون، وسيحل بهم عذابُ
الله وهلاكه، فكان الناصحون يجيبونهم ويقولون: سنستمر في الإنكار عليهم والنصح والوعظ
لهم لأمرين:
الأول:
لنقيم عليهم الحجة، ونُعْذَرَ عند ربنا بقيامنا بواجب الإنكار والنصح.
وثانياً:
لعل هؤلاء الفاسقين يتقون وينتفعون بالنصح فينتهون عن معصيتهم.
((وَإِذْ
قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ
مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ)).
ولما
تمادى المحتالون العاصون، وأصروا على هتك حرمة الله، وعتوا وكابروا وجاهروا، رغم نصح
الناصحين، غار العظيم في عليائه على حرمته، فجاءهم بأس الله ونكاله ونقمته،
وعقوبته الفظيعة التي لا نظير لها، فقال الله العظيم الذي يقول للشيء كن فيكون،
قال للعاصين: ((كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)) فمُسِخ القوم رجالُهم ونساؤهم،
وتحولت صورهم إلى قردة (خَاسِئِينَ) أذلة صاغرين، يتعاوون عواء القرود، ويتعارفون
بينهم، وهم في بيوتهم، ولم يخرجوا منها كعادتهم، فاستبطأهم إخوانهم الذين نجوا من
العذاب، وفتح كل قريب على قريبه بيته، فرأوهم بالمنظر المُريع، قد مسخوا قردة،
فعرفوا أن نقمة الله قد حلَّت بهم، وأخذوا يقولون لهم: ألم ننهكم، ألم نذكركم،
فتهز القردةُ رؤوسها أن نعم، وتبكي.
((فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ -شديد
فظيع أليم- بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا
عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ((
عقوبةٌ ما أفظعها، وقصةٌ ما أبلغ موعظتها.
انقسم
أهل القرية ثلاثَ فرق:
ــ فرقة
عاصية محتالة، نزل عليهم نكال الله وعقابه.
ــ وفرقة
ناصحة، نص الله على نجاتهم ورضي موقفهم.
ــ وفرقة
ساكتة، سكت الله عن مآلهم، والجزاء من جنس العمل، فلا يستحقون مدحاً ولا عقاباً،
ولكنهم نجو على الراجح، لأن ظاهر النص أنهم منكرون بقلوبهم، وإنكار المنكر فرض
كفاية، وقد قام به إخوانهم الناصحون.
ولعن
الله أصحاب السبت، أي طردهم من رحمته، فعظم النكال عليهم، كما قال الله تعالى: ((يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا
لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ
أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ
أَمْرُ اللَّهِ)) يروى أن كعب الأحبار التابعي رحمه الله، كان من يهود اليمن، لما
سمع قارئاً يقرأ بقراءة حزينة هذه الآية، أسلم كعب خوفاً من هذا التهديد الرباني
الشديد وكان زمان عمر بن الخطاب.
فاتقوا
الله عباد الله، وعظموا حرمات الله، واحذروا نقمة الله، فالله يغار على حرماته، ((وَيُحَذِّرُكُمُ
اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ))
بارك الله لي ولكم في
القرآن والسنة، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، قلت ما قد سمعتم،
وأستغفِر اللهَ لي ولكم، إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله كثيراً،
وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به
وتوحيداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم
تسليماً مزيداً. أما بعد:
أيها
المسلمون: قال الله تعالى: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ))، اللهم اجعلنا من أولي الألباب.
من
العبر التي نأخذها من قصة أصحاب السبت:
أولاً:
عظيم شناعة الاحتيال على حرمات الله، وخطورة الجرأة على انتهاكها.
وقد
نهانا النبي صلى الله عليه وسلم، عن الوقوع فيما وقعت فيه اليهود، فيحل بنا ما حل
بهم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَرْتَكِبُوا
مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى
الْحِيَلِ» ابن بطة في إبطال الحيل ح56 ، وحسنه الألباني في كتاب صفة الفتوى ص28، وقال
بن كثير: وهذا إسناد جيد، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرا .
ثانياً
من عبر القصة: سوء عاقبة العصيان الجماعي المجتمعي العلني، حيث كان عصيان أهل
القرية كذلك، فعوقب المجموع بالمسخ الجماعي.
يزيدنا
خوفا من سوء عاقبة المعاصي المجتمعية الجماعية العلنية، والخوف من عقوبة المسخ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي هَذِهِ الأُمَّةِ
خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: «إِذَا ظَهَرَتِ القَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ وَشُرِبَتِ
الخُمُورُ» صحيح أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم.
فاللهم
غفرانك ربنا ولطفك وعفوك.
ثالثاً:
عظم فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن عاقبته، حيث إنه سبب في نجاة أهله
عند نزول العذاب والعقاب، وكذلك في القصة فضل إنكار المنكر بالقلب، حيث نجا
المنكرون المبغضون للحرام بقلوبهم.
رابعاً
من عبر القصة: أن فسق الناس سبب في ابتلاء الله لهم بتيسير سبل الحرام، ليهلك من
هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وليميز الله الخبيث من الطيب.
قال
الله في قصة أصحاب السبت: ((كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ))، ((
وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا))
ــ لقد
ابتلي بنوا إسرائيل بقرب السمك المحرم صيده فلم يصبروا.
ــ وابتلي
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بصيد البر تناله أيديهم ورماحهم وهم حُرُم، وطعامهم
كاد يفنى، فثبتوا وصبروا.
ــ وابتلينا
نحن في زماننا بقرب المعاصي من أسماعنا وأبصارنا وبسهولة مواقعتها، ليعلم الله من
يخافه بالغيب منا، فلنصبر كما صبر أصحاب نبينا، ولنثبت كما ثبتوا، حتى نلقى نبينا
صلى الله عليه وسلم على الحوض المورود.
اللهم
إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناءً عليك.
اللهم ادفع وارفع واصرف
عنا الوباء والبلاء، وقنا شر الأدواء يا سميع الدعاء.
اللهم إنا نعوذ بك من
زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك
اللهم إنا نعوذ بك من
البرص والجنون والجذام وسيئ الأسقام.
اللهم إنا نسألك العفو
والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم احفظنا واحفظ
بلادنا وبلدان المسلمين من كل سوء ومكروه. اللهم اجز ولاتنا عنا خير الجزاء.
اللهم اشف مرضانا ومرضى
المسلمين بكورونا، اللهم ارحم موتانا بكورونا وتقبلهم في الشهداء.
واشف عموم مرضى
المسلمين، وارحم موتاهم، وعاف مبتلاهم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم تغمدنا ووالدينا
برحمتك إنك أنت أرحم الراحمين. اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا
كله ولا تكلنا أنفسنا طرفة عين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح
لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا
زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات . ربنا
اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنُوا
ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |