الحفاظ على الحسنات
8/ شوال/ 1444هـ
إنَّ
الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونَسْتغفرُهُ، ونَعوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا،
وسَيِّئَاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلا
هَادِيَ لَه، وأشْهَدُ ألَّا إِلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شرِيكَ له، وأشْهَدُ
أنَّ مُحمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ
تَسْلِيماً كثيراً.
أَمَّا
بَعْدُ، فـ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ))
عِبَادَ
اللهِ:
الفَرَحُ بِفِعْلِ الحسناتِ عِبَادَةٌ قَلْبِيَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، قال الله
تعالى: ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا))، ولَلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ، بَلْ والسُّرُورُ
بِالحَسَنَةِ مِنْ عَلامَاتِ الْإيمَانِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ علَيْهِ
وسَلَّمَ: (مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ
سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ) رَواهُ أحمدُ والتِرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ
الألبَانِيُ.
ــ ويَنْبَغِي
عَلَى المُؤْمِنَ أَنْ يُتْبِعَ فَرَحَهُ وسُرُورَهُ بِحَسَنَاتِهِ، بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
الأَوَّل: الخَوفُ
مِنَ عَدَمِ القَبُولِ، خَشْيَةَ أن يكون العبدُ لَمْ يُتِمَّ عَمَلَهُ منْ حَيْثُ
نِيَّتِهِ وحُضُورِ القَلْبِ فيهِ، ومِنْ حَيْثُ إحْسَانِ وإتْقَانِ أفْعَالِهِ.
فَالَّذِينَ
قَالَ اللهُ فِيهِمْ: "(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)) هُمُ الَّذِينَ
يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ
مِنْهُمْ" أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
ــ وخَوْفُ عَدَمِ
القَبُولِ يَدْفَعُ إِلَى:
الثَّانِي
وَهُو:
كَثْرَةُ دُعَاءِ اللهِ بِقَبُولِ العَمَلِ، وُسؤَالِهِ العَفْوَ عَنْ التَّقْصِيرِ
والنَّقْصِ الحَاصِلِ فِيهَا، اقتداءً بالأبَويْنِ الكَرِيمَينِ إبراهيمَ وإسماعيلَ
عليهما السَّلامُ، حَيْثُ كانَا يَبْنِيانِ كَعْبَةَ اللهِ ويَرفَعانِ قَوَاعِدَها
بِأَمْرٍ مِنْ رَبِّهِمَا ويَدْعُوَانِ اللهَ: ((رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) ويَقُولَانِ: ((وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)).
الثالث: الْمُحَافَظةُ
على الحسناتِ منَ الحُبُوطِ والذَّهَابِ.
والشيطانُ
الرَّجِيمُ يَسْعَى بِكُلِّ جُهْدِهِ ليُوقِعَ العبدَ في المُحْبِطَاتِ والمُبْطِلاتِ،
بَعْدَ عَمَلِهِ الصالِحَاتِ، فالحَذَرَ الحَذَرَ عبادَ اللهِ، فبَعَضُ السَّيِّئاتِ
يُذْهِبْنَ الحَسَنَاتِ.
قالَ اللهُ تَعَالَى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ))
قالَ ابنُ سِعْدِيِّ:
(وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) يَشْمَلُ
النَّهْيَ عَنْ إِبْطَالِهَا بَعْدَ عَمَلِهَا، بِمَا يُفْسِدُهَا، مِنْ مَنٍّ
بِهَا، وَإِعْجَابٍ، وَفَخْرٍ وَسُمْعَةٍ، وَمِنْ عَمَلٍ بِالْمَعَاصِي الْتِي
تَضْمَحِلُّ مَعَهُا الْأَعْمَالِ، وَيَحْبَطُ أجَرُهَا، وَيَشْمَلُ النَّهْيِ
عَنْ إِفْسَادِهَا حَالَ وُقُوعِهَا بِقَطْعِهَا، أَوْ الْإِتْيَانِ بِمُفْسِدٍ
مِنْ مُفْسِدَاتِهَا. اهـ
وَقَالَ قَتَادَةُ:
مِنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَلّا يُبْطِلَ عَمَلًا صَالِحًا عَمَلَهُ بِعَمَلٍ
سَيِّئٍ فَلَيَفْعَلْ، فَإِنَّ الْخَيْرَ يَنْسَخُ الشَّرَ، وَإنَّ الشَّرَّ
يَنْسَخُ الْخَيْرَ، وَإِنَّ مِلَاكَ الْأَعْمَالِ خَوَاتِيمُهَا.
فاحْذَرُوا
عبادَ اللهِ وتَذَكَّرُوا هَذَا الوَعِيدَ المُخِيفَ: (أَنْ
تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)، وفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ:
بَابُ خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ.
أَيُّهَا
الْمُسْلِمُونَ: مُحْبِطَاتُ الْأَعْمَالِ وَمُذْهِبَاتُ الْحَسَنَاتِ قِسْمَانِ:
الْقِسْمُ
الْأَوَّل: مُحْبِطَاتٌ كُلِّيَّةٌ تُذْهِبُ الْعَمَلَ كُلَّهُ
وَتُبْطِلُ الْإيمَانَ، وَهِيَ: الْكُفْرُ الْأَكْبَرُ وَالشِّرْكُ الْأَكْبَرُ
وَالنِّفَاقُ الْأَكْبَرُ وَالرِّدَّةُ، وَتَرَكُ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَوْلِ
الرَّاجِحِ.
وَالْمُؤْمِنُ
عَلَى خَطَرٍ مِنْهَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ لَيَهْرُبَ وَيَجْتَنِبَ
الْوُقُوعَ.
الْقِسْمُ
الثَّانِي: مُحْبِطَاتٌ وَمُذْهِبَاتٌ جُزْئِيَّةٌ، لَا
تُحْبِطُ الْعَمَلُ كُلَّهُ وَلَا تُبْطِلُ الْإِيمَانَ: وَهِيَ أُمُورٌ عَدِيدَةٌ
جَاءَ ذِكْرُهَا فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أُذَكِّرُ نَفْسِي وإِيَّاكُمْ
بِبَعْضِهَا مِمَّا يَشْتَدُّ الْبَلَاءُ بِهَا.
فَمِنْ
الْمُحْبِطَاتِ الْمُذْهِبَاتِ لِلحَسَنَاتِ: (الرِّيَاءُ)،
قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ
أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ قَالُوا: وَمَا
الشِّرْكُ الأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ،
يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ
بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ فِي الدُّنْيَا
فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً) رواه أحمد وصححه الألباني
وقالَ اللهُ
تعالى: ((أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا
صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ))
فالرِّيَاءُ مُبْطِلٌ لِلصَّدّقَاتِ.
فَيَا
عِبَادَ اَللَّهِ: حَافِظُوا عَلَى حَسَنَاتِكُمْ
بِالْعِنَايَةِ بِإِخْلَاصِ اَلنِّيَّةِ، وَمُدَافِعَةِ اَلرِّيَاءِ، وَالرِّيَاءُ
قَدْ يَطْرَأُ بَعْدَ اَلْعَمَلِ وَذَلِكَ بِالتَّحَدُّثِ بِهِ عِنْدَ اَلنَّاسِ
أَوْ بِنَقْلِ صُورَتِهِ وَتَسْجِيلِهِ، فَاحْذَرُوا أَسْبَابَ الرِّيَاءِ.
وَمِنَ
اَلْمُحْبِطَاتِ اَلْمُذْهِبَاتِ لِلْحَسَنَاتِ: اَلْمَنُّ
عَلَى اَللَّهِ بِالْعَمَلِ وَاسْتِكْثَارُهُ، وَالْإِعْجَابُ بِالنَّفْسِ بَعْدَ
اَلْعَمَلِ، قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى: ((وَلَا
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)) قَالَ اَلْحَسَنُ اَلْبَصْرِيُّ أَيْ: لَا تَمْنُنْ
عَمَلَكَ عَلَى رَبِّكَ تَسْتَكْثِرْهُ، وَهُو قَولُ اِبْنِ جَرِيرْ.
وقالَ اللهُ
تعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ)) أَيْ: بِالْمَنِّ عَلَى
اَلسَّائِلِ وَبِالْمَنِّ عَلَى اَللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ
رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ
لَمْ تُذْنِبُوا، لَخَشِيِتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ اَلْعُجْبَ)
رَوَاهُ اَلْبَزَّارُ وَحُسْنَهُ اَلْأَلْبَانِيُّ.
وقالَ يَحْيَى
بنُ مُعَاذٍ: (إِيَّاكُمْ والعُجْبَ، فإِنَّ العُجْبَ مَهْلَكَةٌ لِأَهْلِهِ،
وإِنَّ العُجْبَ لَيَأْكُلُ الحسَناتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ).
قَالَ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ: (كَثِيرًا مَا يُقْرَنُ الرِّيَاءُ بِالْعُجْبِ، فَالرِّيَاءُ مِنْ
بَابِ الْإشْرَاكِ بِالْخَلْقِ، وَالْعُجْبُ مِنْ بَابِ الْإشْرَاكِ بِالنَّفْسِ،
وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرُ، فَالْمُرَائِي لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)
وَالْمُعْجَبُ لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)). اهِـ.
وَلِأَجْلِ
قَطْعِ مَادَّةِ الْإعْجَابِ بِالْعَمَلِ، أُمِرَ الْمُصَلِّي
بِالِاسْتِغْفَارِ ثَلَاثًا بَعْدَهَا، وَأُمِرَ الْقَائِمُ اللَّيْلِ بِخَتْمِ
قِيَامِهِ بِاسْتِغْفَارِ الْأَسْحَارِ، وَأَمَرَ مَدْرِكُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
بِسُؤَالِ اللَّهَ الْعَفْوَ، وكانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُكْثِرُ مِنَ الاسْتِغْفَارِ، وَأُمِرَ بِخَتْمِ حَيَاتِهِ
الشَّرِيفَةِ بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدُ وَالاسْتِغْفَارِ.
فَيَا
عِبَادَ اللَّهِ: حَافِظُوا عَلَى حَسَنَاتِكُمْ
بِمَقْتِ النَّفْسِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَشُهُودِ النِّعْمَةِ والْمِنَّةِ لِلَّهِ
فِي كُلِّ حَسَنَةٍ تَعْمَلُونَهَا، وَلَا يَقُلِ المَرْءُ أَنَا أَحْسَنُ مِنْ
غَيْرِي، أَنَا أَفْعَلُ وَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ، أَنَا لَا أَرْتَكِبُ وَهُمْ
يَرْتَكِبُونَ، فَإِنَّ هَذَا يُخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَنِّ وَالْاسْتِكْثَارِ
عَلَى الله، وما يُدْرِيكَ أنَّكَ أَحْسَنُ؟ وما يُدْرِيكَ أنَهُ تُقُبِّلَ مِنْكَ؟
وَمِنَ
اَلْمُحْبِطَاتِ اَلْمُذْهِبَاتِ لِلْحَسَنَاتِ:
اَلِابْتِدَاعُ وَعَدَمُ اِتِّبَاعِ اَلسَّنَةِ فِي اَلْعَمَلِ، يَقُولُ النبيُّ
عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (مَن أَحْدَثَ في
أَمْرِنَا هذا ما ليسَ مِنْهُ، فَهو رَدٌّ) أخرجَهُ البُخَارِيُّ واللفظ
له، ومسلم، وفي رواية: (مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه
أمْرُنا فَهو رَدٌّ) مسلم، فَعَمَلٌ لمْ تَتَّبِعْ فِيه ِالسُّنَّةَ والطَّريقَةَ
المُحَمَّديَّةَ لَا ثَوَابَ لَكَ فَيهَ، بَلْ أَنْتَ مَأزُورٌ غًيْرُ مًأَجُورٌ.
فيا
عِبَادَ اللهَ: حَافِظُوا عَلَى حَسَنَاتِكُمْ بِالحِرْصِ
عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِيَهَا.
ومِنَ
الْمُحْبِطَاتِ المُذْهِبَاتِ للحَسَنَاتِ: ذُنُوبُ الخَلَوَاتِ،
الجُرْأَةُ عَلَى مَحَارِمِ اللهِ فِي الخَلْوَةِ: قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ
أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ
بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا"
قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا
نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: "أَمَا
إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ
كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ
انْتَهَكُوهَا). رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
فَيَا
عِبَادَ اللهِ: حَافِظُوا عَلَى حَسنَاتِكُمْ بِتَقْوِيَةِ
عُبُودِيَّةِ المُرَاقَبَةِ وَخَشْيَةِ اللهِ في الغَيْبِ والشَّهادَةِ، واحْذَرُوا
ذُنُوبَ الخَلَوَاتِ مَعَ الشَّاشَاتِ فِإنَّهَا مِنْ فِتَنِ الزَّمَانِ المُضِلَّاتِ.
ومن
الْمُحبِطات الْمُذهِبات للحسنات:
ــ تَرْكُ
صَلَاةِ العَصْرِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ) رواه
البخاري وفي رواية: (مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ
الْعَصْرِ) ابن ماجه. وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ فَضْلِ الصَّلاةِ
الوُسْطَى صَلَاةِ العَصْرِ.
فَحَافِظْ على
حَسَنَاتِكَ يا عَبْدَ اللهِ، بالمُحَافَظَةِ على صَلاةِ العَصْرِ، فالتَّهاوُنُ بِهَا
أَصْبَحَ شَائِعَاً فِي زَمَانِنَا.
ــ ومِنْهَا: مَظَالِمُ
الْعِبَادِ وَحُقُوقُ النَّاسِ، إِذَا لَمْ تُرَدَّ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا
سَتُرَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي، كَمَا
دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْمُفْلِسِ، تُرَدُّ مِنْ صِيَامِهِ وَصَلَاتِهِ
وَزَكَاتِهِ وَثَوَابُ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، فَيَا عُظْمَ حَسَرَاتِهَ.
ــ
ومِنْهَا: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا
فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)
رواه مسلم، بِمُجَرَّدِ سُؤَالِهِمْ دُونَ تَصْدِيقٍ، لَا تُقْبَلُ صَلَاتُهُ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَكَيْفَ بِمَنْ سَأَلَهُمْ وَصَدَّقَهُمَ؟
ــ
ومِنْهَا: (مَنْ شَرِبَ
الْخَمْرَ شَرْبَةً لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً، فَإِنْ
تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ) حديث صحيح، أخرجه أحمد ومالك والدارمي. شَرْبَةٌ
مُنْتِنَةٌ تُذْهِبُ الْعَقْلَ سَبَبٌ فِي ذَهَابِ أُجُورِ صَلَاةِ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا، فَأَنِيبُوا يَا أُولِي الأَلْبَابِ.
ــ
ومِنْهَا: (مَنِ اقْتَنَى
كَلْبًا، لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ، أَوْ ضَارِيَةٍ، نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ
عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ) رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ لمسلم: (مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ، وَلَا
مَاشِيَةٍ، وَلَا أَرْضٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَانِ كُلَّ
يَوْمٍ).
فَيَا
مُسْلِمُون َاحْذَرُوا التَّشَبُّهَ بِالنَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ لَا حَسَنَاتِ
لَهُمْ يَخْسَرُونَهَا.
اللَّهُمَّ
ثَبِّتْنَا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالسَّنَةِ وَأحْيِنَا عَلَيْهِمَا، وَأمِتْنَا
عَلَيْهِمَا، وَاحْفَظْ عَلَيْنَا حَسَنَاتِنَا وَتَقَبَّلْهَا مِنَّا يَا كَرِيمُ
يَا رَحِيمُ.
أَقُولُ
قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ.
الخطبة
الثانية:
الحمدُ
للهِ على إحْسَانِه، والشُّكْرُ لهُ على تَوفِيقِهِ واْمتِنانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا
إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ، لَهُ تعظيمًا لِشأْنِه، وأَشْهَدُ أنَّ
نبيَّنا مُحمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه الدَّاعِي إِلى رِضْوَانِهِ، صلِّى اللهُ
عليه وعلى آلِه وَأصحابِه وَإِخْوَانِهِ وسلِّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد
أيها الناس:
ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا فِي الْقُرْان لِلْحَسْرَةِ عَلَى ذَهَابِ الْحَسَنَاتِ،
فَاسْتَمِعُوا لَهُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ((أَيَوَدُّ
أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ
ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ))
رَجُلٌ
كَبِيرٌ فِي السِّنِّ، بَلَغَ سِنَّ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ عَنْ الشُّغْلِ، وَلَهُ
ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ، أَطْفَالٌ صِغَارٌ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى التَّكَسُّبِ،
فَهُمْ عَيَّالٌ عَلَيْهِ.
لِهَذَا
الرَّجُلِ الْكَبِيرِ جُنَّةٌ، أَيْ: بُسْتَانٌ جَمِيلٌ، وَلَا يَمْلِكُ مَصْدَرَ
رِزْقٍ لَهُ وَلِعِيَالِهِ غَيْرَهَا.
فِي هَذِهِ
الْجَنَّةِ أَنْوَاعُ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَأَكْثَرُهَا مِنْ النَّخِيلِ
وَالْأَعْنَابِ الَّتِي تُعَدُّ ثَمَرَتَهُمَا مِنْ أَنْفَعِ الْفَوَاكِهِ،
سَاعَدَ عَلَى طِيبِ نَتَاجَ الْجَنَّةِ، أَنَّهَا تَجْرِى مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا
الانْهَارُ، فلا يُحْتَاجُ لعناءٍ في سَقْيِهِا، فالجَنَّةُ تُعْطِي ثِمَارَهَا بِلَا
عَنَاءٍ ولا جُهْدٍ كَبِيرٍ.
وَفِي هَذِهِ
الْحَالِ وَالْأَثْنَاءِ، هَبْ عَلَى الْجَنَّةِ إِعْصَارٌ شَدِيدٌ فِيهِ نَارٌ،
فَأَصَابَهَا فَاحْتَرَقَتْ كَلُّهَا، وَتُعَطَّلَ نَفْعُهَا.
فَكَيْفَ
سَتَكُونُ حَسْرَةُ قلب هَذَا الرَّجُلِ الْكَبِيرِ وَلَوْعَةُ نَفْسِهِ؟
سَيُصِيبُهُ
مِنْ الْغَمِّ وَالْحُزْن وَالْحَسْرَةً وَاللَّوْعَةِ مَا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ
إِلَّا اللَّهُ.
فَهَلْ يُحِبُّ
أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ كَحَالِ هَذَا الرَّجُلِ وَيُصِيبُهُ مِثْلُ مَا
أَصَابَهُ؟ بِكُلِّ تَأْكِيدٍ لَا.
فَهَذَا
مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِشِدَّةِ حَسْرَةِ مَنْ رَأَى حَسَنَاتِهِ يَذْهَبُ
ثَوَابُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ لَهَا،
فحَسْرَتُهُ أَشَدُّ الْحَسَرَاتِ، أضْعَافُ أَضْعَافِ حَسْرَةِ صَاحِبِ الجَنَّةِ
عَلَى جَنَّتِهِ الَّتِي احْتَرَقَتْ.
قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنْهُمَا عنْ هذا المَثَلِ: ضُرِبَ مَثَلاً لِعَمَلٍ، لِرَجُلٍ
غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ
الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ. أخرجه البخاري.
وَقَالَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا مِثْلَ قُلْ وَاللَّهِ مِنْ يَعْقِلُهُ مِنْ
النَّاسِ، شَيْخٌ ضَعُفَ جِسْمُهُ وَكَثُرَ صِبْيَانُهُ، أَفْقَرَ مَا كَانَ إِلَى
جَنَّتِهِ، وَإنَّ أَحَدَكُمْ وَاللَّهِ أَفْقَرُ مَا يَكُونُ إِلَى عَمَلِهِ
إِذَا انْقَطَعَتْ عَنْهُ الدُّنْيَا.
فَيَا
مُؤْمِنُونَ يَا مُسْلِمُون يَا مُحَسِّنُونَ: حَافِظُوا عَلَى حَسَنَاتُكُمْ مِنْ
الْمُبْطِلَاتِ، بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَالْبُعْدِ
عَنْ مَعْصِيَتِهِمَا ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)).
اللهم
ألهمنا رشدنا وقنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا واغفر لنا خطأنا وجهلنا، وإسرافنا
في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدِّنا وخطأنا وعمدنا، وكل
ذلك عندنا .
اللهم
اجعلنا لك شكارين ، إليك أواهين منيبين ، تقبل يا رب توبتنا ، واغسل حوبتنا ، وأجب
دعواتنا ، وثبت حجتنا ، واسلل سخائم صدورنا ، وعافنا واعف عنا برحمتك يا أرحم
الراحمين.
اللهم
أصلح قلوبنا أجمعين ، اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها
ومولاها . اللهم إنا نسألك قلبًا سليما ولسانًا صادقا ، ونسألك من خير ما تعلم ،
ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب . اللهم إنا نعوذ
بك من شر ما عملنا وشر ما لم نعمل.
اللهم
آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ
بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام واجزهم خيراً على ما يقدمونه لخدمة
الإسلام والمسلمين يا رب العالمين .
اللهم
احفظ علينا أمننا وإيماننا وصحة أبداننا وعافية أجسادنا، اللهم اشف مرضانا وعاف
مبتلانا واجعل آخرتنا خير من دنيانا، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان
المعتدين ومن كل شر وفتنة يا خير الحافظين، اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين
بسوء وفتنة فاجعل كيده في نحره يا قوي يا عزيز، يا حيّ يا قيوم . ربنا اغفر لنا
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنُوا ربنا إنك
رءوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
سبحان
ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد
من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي حفظه الله تعالى:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|