البشارات
للمؤمن عند الوفاة
1- 8 -1443
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: الموت مصيرنا المحتوم، كتبه الله قدراً يقيتياً على جميع
العباد، فالجن والإنس كلهم يموتون (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، الكل
سيموت، مات السابقون، وسيموت اللاحقون، مات الأنبياء والمرسلون والأولياء
والصالحون ومن سواهم، ومات الملوك والمملوكون، والأصحاء والمريضون، الكل سيموت
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ).
وكلنا يكره الموت، وليس ذلك من كراهية لقاء الله، ومع كراهيتنا الشديدة له
أُمِرْنا بكثرة ذكره وتذكره، حتى لا نغفل عن لقائه فهو يقين، ولنستعد لما بعده.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَكْثِرُوا
ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ) يَعْنِي الْمَوْتَ. صحيح أخرجه أحمد والترمذي وابن
ماجه وابن حبان لأن الإنسان في غمرة ملهيات الحياة ومشاغلها يغفل وينسى كثيراً،
وكفى بالموت واعظاً.
وأمرنا صلى الله عليه وسلم أيضاً بزيارة المقابر لتذكرنا الآخرة والمصير
عباد الله: لحظات الموت والاحتضار لحظات عصيبة، ولها شدائد وسكرات وغمرات،
لن يمر على العبد لحظة أشد منها.
هي اللحظة التي ينتقل فيها العبد من الدنيا إلى الآخرة، وتقوم قيامته
الصغرى، فيغلق الستار بينه وبين الدنيا، ويفتح الستار أمامه إلى الدار الآخرة،
ويرى الملائكة، إما ملائكةُ الرحمة وإما ملائكة العذاب، ويرى مصيره إما إلى الجنة
أو إلى النار، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا
تَمَنَّوُا الْمَوْتَ: فَإِنَّ هَوْلَ الْمُطَّلَعِ شَدِيدٌ) حسن أخرجه أحمد
وغيره.
(وهول المُطَّلَعِ) هو لحظة الانتقال للدار الآخرة، وانكشاف غطائها وستارها
أمام المحتضر.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طُعِنَ وهو في لحظاته الأخيرة:
"لَو أَن لي مَا على الأَرْض مِنْ بَيْضَاءَ وَصَفْرَاءَ لافْتَدَيْتُ بِهِ
مِنْ هَوْلِ المطلع". حسن أخرجه ابن حبان،
ح(6852).
ولكن أبشروا يا عباد الله، واستبشروا يا مؤمنون، فللمؤمن عند رَبِّه كرامةٌ
وأيُ كرامة، يقول الكريم اللطيف سبحانه في الحديث الإلهي: (وما ترددت عن شيء أنا
فاعله، ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته) أخرجه البخاري. الله
أكبر ولله الحمد.
وللمؤمنين أيضاً رحماتٌ من ربهم وفضل، قال الله تعالى: (وَكَانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) وقال: (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
ومن رحمته سبحانه بالمؤمنين وفضله عليهم: بشاراتٌ جليلة لهم عند الموت،
تُخَفِّفُ عنهم شدائده، وهول مُطَّلَعِهِم إلى الآخرة.
فبينما يجهز المسلمون جسد المؤمن المتوفى وجثمانه الطاهر كما يجهز العريس،
ينظفونه ويوضؤونه ويغسلونه ويطيبونه ويلفُّونه باللباس الأبيض الجديد ويحملونه على
الأكتاف والرقاب، ويُصَلُّون عليه ويدعون ويشفعون له، ثم يشيعونه ويمشون به ومعه
إلى قبره ويوسدونه في لحده على جنبه الأيمن مستقبلاً القبلة ويودعونه.
بينما يفعل المسلمون بجثمان المؤمن الطاهر ذلك...
لروحِ المؤمن شأن آخر مع رحمات الله، واستقبال الملائكة لها بأمور مشابه
لعمل المسلمين مع الجثمان، فيستقبل الملائكة روحه أحسن استقبال، ويعملون معها أحسن
الأعمال. فاستبشروا أيها المؤمنون.
فأول الرحمات والبشارات للمؤمن عند الوفاة: أن الله تعالى يثبت قلبه على الإيمان، ولسانه على قول
لا إله إلا الله: و (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) صحيح رواه أحمد
وأبو داود (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) بقول لا إله
إلا الله عند الموت، (وَفِي الْآخِرَةِ) في القبر عند فتنته، ويوم القيامة في
مواطن، فاللهم ثبتنا يا رحمن.
الرحمة.
والبشارة الثانية: يُخَفَّف عن المؤمن شدة ألم الموت، فيقول ملك الموت لروحه وهو جالس عند
رأسه: (اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ
الطَّيِّبِ، إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللهِ وَرِضْوَان، فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا
ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، فَتَخْرُجُ رُوحُهُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ
مِنْ فِيِّ السِّقَاءِ).
البشارة الثالثة: أن المؤمن في لحظات الاحتضار (تنزل إليه ملائكة الرحمة من السماءِ وتحضر
عنده، بِيضُ الوُجُوهِ، كأنَّ وجوهَهُمُ الشمسُ، معهم كَفَنٌ من أكفانِ الجنةِ، ــ
حريرةٌ بيضاء ــ وحَنُوطٌ من حَنُوطِ الجنةِ ــ يعني من طيبها ــ يَجْلِسُون منه
مَدَّ البَصَرِ) من كثرتهم، فيستبشر برؤيتهم ويطمئن.
البشارة الرابعة: أن ملائكة الرحمة التي تحضره يبشرون روحه، فيقولون: (أَبْشِرِي بِرَوْحٍ
وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، وعندها (لا يكون شيءٌ أحبَّ إليه ممَّا
أمامه، فيحبُّ لقاءَ اللهِ فيحبُّ اللهُ لقاءَه) أخرجه البخاري. فتأخذ ملائكةُ
الرحمةِ روحَهُ من ملك الموت مباشرة في طرفة عين، ويضعونها في كفن الجنة الحريري
ويطيبونها بحنوط الجنة الذي هو أخلاط من أطيب الطيب
البشارة الخامسة: أن روحه إذا خرجت من جسده، يخرجُ منها كأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ
على وجهِ الأرضِ، يشمها الملائكة، (ويَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ مَا أَطْيَبَ
هَذِهِ الرِّيحَ، رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِن قِبَلِ الْأَرْضِ) رواه مسلم.
البشارة السادسة: إذا خَرَجَتْ رُوحُ المؤمن (صلَّى عليه كُلُّ مَلَكٍ بينَ السماءِ
والأرضِ، وكُلُّ مَلَكٍ في السماءِ) وهذا فضل عظيم جداً، أن تدعو له ملائكة الرحمن
وتستغفر له.
السابعة: تفتح لروحه أبواب السموات، وتحتفي به ملائكتها أيما احتفاء:
ــ فلا يَمُرُّونَ بها على مَلَأٍ من الملائكةِ إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ
الطَّيِّبُ؟ فتقول ملائكة الرحمة: فلانُ بنُ فلانٍ بأَحْسَنِ أسمائِهِ التي كانوا
يُسَمُّونَهُ بها في الدنيا.
ــ وليس من أهلِ بابٍ من أبواب السماء إلا وهم يَدْعُونَ اللهَ أن يُعْرَجَ
برُوحِهِ من قِبَلِهِمْ.
ــ ويُشَيُّعُهُ من كلِّ سماءٍ مُقَرَّبُوها، إلى السماءِ التي تَلِيها،
حتى يُنْتَهَى به إلى السماءِ السابعةِ، تصعد معها الملائكة المقربون كالوفد، كما
يُمْشَى مع شريف القوم.
الثامنة: أن روحه إذا وصلت إلى السماء السابعة يقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: اكْتُبُوا
كتابَ عَبْدِي في عِلِّيِّينَ، فيُكْتَبُ كتابه في عِلِّيِّينَ، فيفرح فرحاً
عظيماً، ثم تعاد روحه إلى جسده في الأرض.
وتاسعة البشارات: أن روحه تستقبلها أرواح المؤمنين الذين ماتوا قبله.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً
به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه ماذا فعل فلان وفلان؟) [رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه الألباني]. وفي هذا تأنيسٌ لروح المؤمن وإزالة لوحشتها.
اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وميتة الشهداء، وخاتمة
المؤمنين الأتقياء، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة
الثانية:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين،
والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين وسيد ولد آدم أجمعين، محمد بن
عبدالله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله: جاء في السنة الصحيحة ما يدل على أن أرواحُ المؤمنين في الحياة
البرزخية تلتقي وتتزاور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولي أحدُكم أخاه
فليُحْسِن كفنه فإنهم يبعثون في أكفانهم ويتزاورون في أكفانهم) [أورده الألباني في الصحيحة 3/411 وذكر له طرقاً وقال: فيرتقي الحديث بهذه
الطرق إلى مرتبة الصحيح لغيره]
ولذا شرع لنا أن نجهز موتانا كأننا نجهزهم لأحسن المناسبات واللقاءات، فأي
عزاء للمصابين بموت أحبابهم أبلغ من هذا العزاء: أن تشعر بأن ميتك انتقل إلى ما هو
خير له من البقاء في دنياً مُلئت بالفتن والمكدرات والمنغصات.
هذا ما نرجوه لأمواتنا ولا نتألى على الله جل وعلا، ولكن نفرح بالبشارات
التي جاءتنا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحسن الظن بربنا الكريم ونعظم
الرجاء به.
عباد الله: ويتمم عقد البشارات التسع: بشارة عاشرة من نبينا صلى الله عليه
وسلم بتثبيت الله للمؤمن عند فتنة القبر وسؤال الملكين، وتسديده في الجواب،
وعندها: (يُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ: صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ
مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى
الْجَنَّةِ، فيأتيه من طيبها وريحها، ويوسع له في قبره مد بصره، ثُمَّ يُنَوَّرُ
لَهُ فِيهِ، ويعرض عليه مقعده من الجنة بالغداة والعشي حتى يُبْعث، فَيَقُولُ:
دَعُونِي أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُبَشِّرُهُمْ، فَيقال لَهُ: نَمْ كَنَوْمَةِ
الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى
يَبْعَثَهُ اللهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ). (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ
وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)
فــ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) حافظوا على إيمانكم وإسلامكم
لتفوزوا بالرحمات والبشارات عند الوفاة.
اللهم أحينا على الإسلام والسنة وأمتنا على لا إله إلا
الله وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واهدنا صراطك المستقيم
وجنبنا طريق الغاوين والضالين.
اللهم إنَّا نسأَلُك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك
كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى. ونسألك نعيما لا ينفد،
ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت.
ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم آت
نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم إنا نسألك
قلبًا سليما ولسانًا صادقا ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ بك من شر ما تعلم ،
ونستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب . اللهم إنا نعوذ بك من شر ما عملنا وشر ما
لم نعمل.
اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة
أمورنا، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال
والإكرام واجزهم خيراً على ما يقدمونه لخدمة الإسلام والمسلمين يا رب العالمين .
اللهم ادفع عن بلادنا الغلا والوباء وسوء الفتن ما ظهر
منها وما بطن، االلهم احفظ علينا أمننا وإيماننا وصحة أبداننا وعافية أجسادنا،
اللهم اشف مرضانا وعاف مبتلانا واجعل آخرتنا خير من دنيانا، اللهم احفظ بلادنا من
كيد الكائدين وعدوان المعتدين ومن كل شر وفتنة يا خير الحافظين، اللهم من أراد
بلادنا وبلاد المسلمين بسوء وفتنة فاجعل كيده في نحره يا قوي يا عزيز، يا حيّ يا
قيوم . ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا
للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا
عذاب النار
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين
والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي حفظه الله
تعالى:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |