قيمة العفاف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد
أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) أما
بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى
الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة
في النار.
عباد الله: في ظل ما يعيشه العالم بأسره، وتعيشه المجتمعات المسلمة خاصة،
من حرب على القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة بموجةٍ عاصفةٍ من الدعوة للانحلال،
ويُروَّج له بمسمى الحرية.
يقود هذه الحرب: إبليس وجنوده من الجن والإنس، يريدون أن يميلوا بنا ميلاً
عظيماً، يريدون أن نُكب في النار نحن وإياهم جميعاً ((وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ
كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآء)) ((وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ
أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيماً)).
في ظل هذه الحرب مع إبليس وجنوده يجب علينا أن نتواصى بالثبات على قيمنا
الإسلامية ونُرَبى عليها أبناءنا وبناتنا، ولا نقف عاجزين ونقول عبارات التخذيل
لأنفسنا، لا ينبغي أن يكون هذا حالنا، بل علينا أن نبذل ما في وسعنا من أسباب، من
نصح ووعظ، ومتابعة ورقابة، ومنع لوصول الشر بقدر ما نستطيع، هذا هو واجبنا،
((وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)) ونقول كما قال شعيب عليه السلام: ((إِنۡ أُرِيدُ
إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ
عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيب))، بسم الله الرحمن الرحيم: ((وَالْعَصْرِ
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ)).
عباد الله: قيمنا وأخلاقنا في خطر، وإن من أجَلِّ القيم الإسلامية التي
تواجه حرباً شرسة ضروساً، قيمةَ العفةِ أو العفاف.
ألا فليعلم رحمكم الله، أن من أول وسائل الشيطان الرجيم وجنوده لفتح باب
الشر على بني آدم، وتلطيخهم بالخطيئة، هو خدشُ عفتهم، ونزعُ الحياءِ من نفوسِهم،
وذلك بكشف عوراتهم فيما بينهم، فإن كشفوا العورات تجرؤا على كثير من الرذائل
والخطيئات، لذهاب الحياء منهم، لذا يقول ربنا الرحيم محذراً لنا، وكاشفاً
لمَصْيَدَةٍ من مصائد الشيطان الرجيم: ((يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا
لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ
حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ))
عباد الله: العفة هي النزاهة والنقاء، وهي صيانة النفس وكفُها عما لا يحل
وما لا يجمل من الشهوات.
والعفةُ قوةٌ داخليةٌ في النفس، يمتنع بها الشخص من غلبة الهوى والشهوة
المحرمة، ويبتعد بها عما يخدش العرض والشرف والمروءة.
وبين العفة والحياة تلازم وتداخل واقتضاء.
والعفة تكون في مجال الأموال والبطون كما تكون في مجال الفروج والجوارح.
وحديثي في هذا المقام عن عِفة الفروج، وعفة الجوارح وحفظها وصيانتها عن
الرذيلة والفاحشة، وعن الحرام، وصيانتها عن كل ما هو طريق ووسيلة لتدنيس الفرج وإثارة
شهوته إلى الحرام.
أيها المسلمون: العفة خلق إيماني نبيل من رفيع أخلاق الإسلام، وقيمة من
قيمه العظيمة، علينا أن نتخلق به ونرسخه في نفوسنا، ونفوس أهلينا، ونحافظ عليه
ونعُضَّ عليه بالتواجد، جاءت الدعوة إلى العفة في أول الإسلام.
وعىٰ ذلك المسلمون، كما وعاه المشركون، كما جاء في الصحيحين أن أبا سفيان
رضي الله عنه لما كان على الشرك وسأله هرقل: (بماذا يأمركم محمد؟) فقال أبو سفيان:
(كان يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وآداء الامانة).
لقد وعى المشركون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بأمهات الأخلاق
وفيها العفاف).
أفلا يعي المؤمنون بالله ربا وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً هذا الخلق
الرفيع بما جاءهم عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حث عليه، وترغيب
به، وثناءٍ على أهله.
عباد الله: يقول نبيكم صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الْحَيَاءَ، وَالْعَفَافَ،
وَالْعِيَّ، عِيَّ اللِّسَانِ، لَا عِيَّ الْقَلْبِ، وَالْفِقْهَ مِنَ
الْإِيمَانِ، وَهُنَّ مِمَّا يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ، وَيُنْقِصْنَ مِنَ
الدُّنْيَا، وَمَا يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ) حديث صحيح أخرجه الدارمي
والطبراني.
يا أهل الإسلام: العفةُ والطهرُ والنقاءُ خلقٌ لأهل الإسلام، يجب أن يكون
سمةً ظاهرة لكل رجلٍ مسلمٍ وامرأةٍ مسلمةٍ، كما يجب أن يكون سمةً للمجتمعات
الإسلامية كلِّها، لتتميز عن المجتمعات الكافرة التي سقطت في مستنقعات العُري
والرذيلةِ، وفسدت فيها المرأة.
عباد الله: لقد أمر الله بالعفاف: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا
يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
• فالشاب الذي لا يستطيع الزواج
مأمور بالتعفف، ووعد بالعون إن طلب النكاح للعفاف، والأمر بالعفاف أحتم وأوجب وآكد
في حق المتزوجين والمتزوجات.
لذا كانت عقوبة المتزوج عندما يترك العفاف ويقعُ في الزنا عقوبةً غليظةً
جداً
• والكبيرات في السن اللاتي لا
يرجون نكاحاً، بعد أن رفع الله عنهن الحرج بوضع بعض الثياب دون تبرج بزينة، أرشدهن
الحكيم العليم إلى الاستعفاف فقال: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ)
فالتعفف خير للكبيرات، فكيف بالشابات؟ لا شك أن التعفف في حقهن أكد، وجوباً
لا استحباباً، لأنهن مطمع لمن في قلوبهم مرض.
وعندما ترى حال بناتنا الشابات مع الستر والحشمة والحياء، تعلم أن
كثيراً منهن أصبن بسهام الفتنة، فتركن
كمال الاستعفاف.
أيها المسلمون: يا أهل العفة والنقاء، لنا أسوة بقدوات العفاف
• لقد صرخ الشاب الجميل الغريب
يوسف عليه السلام أمام دعوة الزنا ومغرياته بـ (معاذ الله)، من أجل العفاف، فصرف
الله عنه السوء والفحشاء.
وسجن من أجل العفاف، وكانت النتيجة: الخروج من السجن ببراءة إلى التمكين
والعزة.
• وتمالأ سكارى الشهوة بإخراج
لوط ٍ عليه السلامُ وأهله من القرية من أجل العفاف والطهر، ((أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ
مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)) فكانت النتيجة أن هلك أهل
الفحشاء، ونجا أهل النقاء.
• ومريمُ ابنةُ عمران
الصِّدِّيقةُ التي أحصنت فرجها وعفَّت فخلق الله في رَحِمِها الطاهر رحمته وكلمته
عيسى عليه السلام، وجعله عنده وجيها، ومن المقربين.
• وعائشة الصديقة العفيفة، أم
المؤمنين، وحبيبة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، غار العظيم على عفتها وعرض
رسوله، فأنزل براءتها من فوق سبع سماوات.
• وتحركت صخرة الغار التي لا
تُزَحْزَح، بالتوسل إلى الله بإخلاص العفاف.
• ولتعزيز قيمة العفاف والستر
والطهر أنزل الله سورة طويلة عظيمة، سماها سورة النور، تُستمد منها أنوار العفة
والطهارة، وافتتحها بافتتاحية فريدة، أثنىٰ فيها عليها وعلى آياتها: ((سُورَةٌ
أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ)).
لذا جاء عن عمَر أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه قال: (علموا نساءكم سورة
النور) أثر صحيح على شرط مسلم أخرجه سعيد بن منصور والقاسم بن سلام، انظر السلسلة
الضعيفة ح (3879) 8/337.
فلنأخذ أيها المؤمنون بوصية أمير المؤمنين عمر، فنربيَ بناتِنا على أخلاق
القرآن بتعليمهن سورة النور حفظاً وفهماً وعملاً بهدايتها، وغيرها من هدى القرآن.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، بارك الله
لي ولكم بالقرآن والسنة، ونفعني الله وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، وأستغفر
الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على نبينا المصطفى وعلى
آله وأصحابه وعلى كل من اقتفى أما بعد:
أيها المسلمون: لقد صانت شريعة الإسلام العفاف بسياج من التشريعات الحكيمة
التي تُغلق باب القتنة، وتُسد أبواب الذريعة إلى الرذيلة.
• فحرّمت الشريعة الزنا وجعلته
من الفواحش الموبقات وجعلت له عقوبة في الدنيا.
• وغلَّظت فاحشة اللواط، وحكمت
بقتل الفاعل والمفعول به، لأنها قذارة وانتكاس عن الفطرة.
• وحدَّت على القذف، ولعنت
وتوعدت الذين يحبون أن تشيع الفاحشة.
• وأمرت الشريعةُ النساءَ أمر
إيجاب بالحجاب، ونهتهن عن إبداء الزينة لغير المحارم.
• وأمرتهن بالقرار في البيوت،
وإن خرجت منه خرجت بلا تبرج ولا تعطر ولا سفور، لأن الشيطان يستشرفها ويغري بها،
وأقرب ما تكون المرأة من ربها وهي في مقربتيها.
• وحرمت الشريعة الخلوة بالمرأة
الأجنبية.
• وحرّمت سفر المرأة بلا محرم.
• وحذّرت من الدخول على النساء.
• وحذّرت من (الحمو) وهو قريب
الزوج، لأنه يؤمن، ولكن الشيطان حريص.
• وأوجبت الشريعة غض الأبصار على
الرجال والنساء، وبالغض يتحقق الزكاء والنقاء.
أيها المسلمون: العين تزني، والأذن، واللسان يزني، واليد تزني، والرجل
تزني.
لذا للعين عفة، وللأذن عفة، وللسان عفة، ولليد عفة، وللرجل عفة.
وعفتها ترك شهواتها المحرمة تقرباً إلى الله، وخوفاً منه وحياءً، ورجاءً
فيه، ومحبة له، فترك شهوات هذه الجوراح المحرمة من أحب العبوديات لله، ألم يقل
الله في الصوم ((إنه لي وأنا أجزي به، ترك طعامه، شرابه وشهوته من أجلي)). ففي
تحقيق عفافها يتجلى الإخلاص وقوة المراقبة لله، لأنها يمكن أن تخون والناس لا
يعلمون.
فيا مؤمن: يا عفيف، اترك الشهوات المحرمة من أجل الله، وستجد الكرامة عنده
في الدنيا والآخر، فمن صوَّم فرجه وجوراحه عن شهواته المحرمة عبودية للرحمن، فإنه
متقرب بعبودية الصبر الذي هو نصف الإيمان، و((إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) وسيعوضون بملذات الجنات جزاء وفاقاً ((وَجَزَاهُم
بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)).
جائزة العفاف عباد الله: الاستظلال بظل عرش الرحمن يوم أن تدنو الشمس من
رؤوس الخلائق فتصهرهم وتُعَرِّقهم حسب أعمالهم.
((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله))
جائزة العفاف، وراثة الفردوس ((وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ)) ((أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ))
فتعففوا عباد الله (فمَنْ يستعفف يُعِفُه الله)، وأسألوا ربكم العفاف كما
كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يسأل ربه : (اللَّهُمَّ إِنِي أَسْأَلُكَ الهُدَى،
وَالتُّقَى، وَالعفَافَ، والغنَى).
فاللهم يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم نسألك الهدى
والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنَّا نسأَلُك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة
الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى. ونسألك نعيما لا ينفد،
ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت.
ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. اللهم
زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم آت نفوسنا
تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم إنا نسألك قلبًا
سليما ولسانًا صادقا ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك
مما تعلم إنك أنت علام الغيوب . اللهم إنا نعوذ بك من شر ما عملنا وشر ما لم نعمل.
اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة
أمورنا، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال
والإكرام واجزهم خيراً على ما يقدمونه لخدمة الإسلام والمسلمين يا رب العالمين .
اللهم ادفع عن بلادنا الغلا والوباء وسوء الفتن ما ظهر
منها وما بطن، االلهم احفظ علينا أمننا وإيماننا وصحة أبداننا وعافية أجسادنا،
اللهم اشف مرضانا وعاف مبتلانا واجعل آخرتنا خير من دنيانا، اللهم احفظ بلادنا من
كيد الكائدين وعدوان المعتدين ومن كل شر وفتنة يا خير الحافظين، اللهم من أراد
بلادنا وبلاد المسلمين بسوء وفتنة فاجعل كيده في نحره يا قوي يا عزيز، يا حيّ يا
قيوم . ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا
للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا
عذاب النار
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين
والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي حفظه الله
تعالى: http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|