ختام سورة النعم
ونعمة أيام عشر ذي الحجة
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ
من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا
هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ
ورسولُهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))،
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر
الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
عباد
الله:
وعظنا
ربنا تبارك وتعالى في سورة النعم، سورة النحل، بتعداد جملة من نعمه، وامتن علينا بقرابةِ
خمسين نعمة من أصول نعمه ومكملاتها، وذلك:
لنتفكر
في آياته ومخلوقاته، ولنعقل ونفهم حججه وبيناته، ولنتذكر ونتعظ فنستدل بها على عظمته
ووحدانيته سبحانه، ومن أجل أن نَسْمَعَ بقلوبنا فنفهم كلامه ومقتضياته، ولنشكره بالقلوب
والألسن والجوارح، ولنعبده وحده لا شريك له، ونرهبه، ونتقيه، ونبقى دائمين على الخضوع
والإخلاص له، ونسلم ونستسلم له بالتوحيد وننقاد له بالطاعة.
بعد ذلك
عباد الله:
يختم
الله تعالى سورة النحل [سورة النعم] بختام رائع جميل جليل يتناسب مع موعظتها الرئيسة.
فيذكرنا
بأن هذه النعم الدنيوية فانية فلا تتعلقوا بها ولا تحملكم على الكفر بنعم الله فتخسروا
النعيم الباقي عند الله
ففي ختام
السورة يضرب الله المثل (في الآية الثانية عشرة بعد المئة) بقريةٍ أنعم الله عليها
بنعمتين عظيمتين:
الأولى:
الأمن والطمأنينة، يحترمها أهل الجاهلية حتى إن أحدهم يجد قاتل أبيه وأخيه فلا يقتص
منه احتراماً للبيت.
والثانية:
رغد العيش رغم أنها بلدة ليس فيها زرع ولا شجر، ولكن تأتيها الأرزاق من كل مكان.
ولكن
أهل هذه القرية كفرت بنعمة الله، ولم تعترف له بالفضل -فسلب الله منها النعمتين- وأبدلهم
مكان الأمن خوفاً، ومكان رغد العيش جوعاً.
قال الله
جل وعلا: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا
رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا
اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ () وَلَقَدْ جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)).
وهذه
القرية هي مكة، حيث كانت كما وصف الله، فكفر أهلها بأنعم الله، وأعظم نعم الله عليهم،
بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ومنهم وإليهم، فكذبوه وآذوه واستعصوا عليه، فدعا
عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجعل اللهُ عليهم سنين جدب كسني الجدب في زمان
يوسف عليه السلام، فأصبتهم سنة أذهبت كل شيء لهم، حتى أكلوا الجلود.
ولما
طردوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجوه من مكة، وهاجر إلى المدينة، أخافهم الله من
نبيه صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين، فأصبحت قريش تخاف من سطوة المؤمنين، وسراياهم،
وجيوشِهم، وقطعهم الطريق على قوافلهم.
فهذا
المثل أنموذج لمآل الكفر بنعم الله.
وبعد
ذكر هذا المثل، يأمر الله المؤمنين بالأكل من الحلال الطيب، والشكر والعبودية لله،
حتى لا يصيبهم مثلُ ما أصاب هذه القرية (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا
طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).
ثم يذكر
الله تعالى في ختام السورة أنموذجاً للعبد الشاكر لأنعم الله، الذي يستحق أن يكون قدوة
للناس وإماماً، وهو الخليل إبراهيم عليه السلام: ((إنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً
قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ () شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ))
كان من الشاكرين، آتاه الله نعماً وفضائل فشكر ربه عليها، ووحد وتبرأ من الشرك وأهله،
وأتم كلمات ربه، ووفّى بما أمر به ونهي عنه، فاستحق أن يشاد به ويكون إماماً للناس
من بعده.
لذا قال
الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو أمر للأمة كلها.
فملة
إبراهيم هي الحنيفية والبراءة من الشرك والقنوت لله بأنواع العبادة، وبهذا يكون العبد
من الشاكرين الصالحين، وتتحقق له سعادة الدارين.
قال الله
تعالى قبل ذكر النموذجين السابقين بقليل: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ
أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))
اللهم انفعنا بهدي كتابك المبين وبسنة سيد المرسلين، قلت ما قد سمعتم
وأستغفر الله لي ولكم إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا
إله إلا هو تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله
عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً. أما
بعد:
فيا أيها
المؤمنون: لقد أقبلت عليكم أيام هي والله نعمة عظيمة من نعم الله عليكم، ومنة من مننه
الكريمة، أيام عشر ذي الحجة المعظمة، أفضل أيام السنة حتى من أيام رمضان، وأحب الأعمال
إلى الله، العمل الصالح فيها، العمل فيها أفضل من الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام
الذي لا تخفى فضائله.
أتم الله
بهذه العشر النعمة على نبيه وكليمه موسى عليه الصلاة والسلام فتمم له الميقات أربعين
ليلة بعد أن صام ثلاثين ذي القعدة، وكلمه وآتاه التوراة في ختامها يوم النحر.
وكأن
الله يريد أن يتمم عليكم أيها المسلمون بفضائل هذه العشرة، أربعين ليلة مع فضائل ثلاثين
رمضان.
وقد تَمّم
الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم النعمة في عشر ذي الحجة، فأنزل عليه في تاسعها
يوم عرفة: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)).
فهذه
العشر أيام إتمام للنعم، فيها يتمم الله على جمع من المسلمين النعمة بأداء فريضة الحج
عليهم، الفريضة العمرية، فتكتمل لهم أركان إسلامهم.
قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ
فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ
الْعَشْرِ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟
قَالَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ،
ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)) [صحيح أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن
ماجه]
فيا عباد
الله: اقدروا قدر هذه الأيام، واعرفوا فضلها وراعوا نعمة الله عليكم بها، فهي والله
نعمة لا تقدر بالأثمان، ولا يعدلها شيء من الأزمان.
وقد كان
السلف يعظمونها كما قال التابعي أبو عثمان النهدي رحمه الله. رواه محمد بن نصر في تعظيم
قدر الصلاة
فيا أيها
المؤمنون المحبون: أيام عشر ذي الحجة، ميدان سباق للمحبين، وموسم اجتهاد وتزود للصالحين
الطائعين.
ومقتضى
محبة الحبيب وشاهد صدقها، الاهتمام بما يحبه الحبيب والاجتهاد في إرضائه به.
فتقربوا
إلى ربكم الودود بما يحبه في هذه الأيام التي يحبها ويعظمها، تنالوا حلاوة الإيمان.
واعلموا
أن أحب ما يتقرب به إلى الله أداء الفرائض بإتقان، وأحب الفرائض إلى الله، الصلوات
الخمس في أوقاتها.
وعليكم
بصيام التسع الأول منها أو صيام بعضها فقد جاء عن جمع من السلف أن صيام اليوم الواحد
منها يعدل صيام سنة كاملة، وإن كسلتم فلا تتركوا صيام يوم عرفة التاسع منها فهو أفضلها.
وأكثروا
تلاوة القران وجميل أن يكون لك ختمة وأكثر في هذه العشر، وأكثروا من ذكر الله بأنواعه
وخاصة التكبير المعلوم صفته، فالعشر أيام ذكر وشكر لله.
وعليكم
بالصدقة بأنواعها، واستشعروا مضاعفة الكريم لأجورها فوق المضاعفة.
واحتسبوا
الأجر واستشعروا التقرب والامتثال عندما تسعون في شراء الأضحية فإنها من أفضل ما تتقربون
به إلى الله يوم النحر الأيام الثلاثة بعده.
واعلموا
أن من أراد أن يضحي فعليه أن يمسك عن شعره وظفره وبشرته من رؤية هلال شهر ذي الحجة
إلى أن يذبح أضحيته. والإمساك عن هذه الثلاث وجوباً على القول الراجح.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما
تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا،
وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا
على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا فى ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، وﻻ مبلغ علمنا،
وﻻ تسلط علينا من ﻻ يرحمنا، اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر
لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا
لك شاكرين.. لك ذاكرين.. لك راغبين.. لك راهبين. اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا،
وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، ويسر أمورنا، وطهر قلوبنا، واسلل سخيمة قلوبنا، برحمتك يا
أرحم الراحمين.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وجماعتنا واستقرارنا ، اللهم ارفع وادفع
عنا البلاء والوباء ، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة
الأعداء، اللهم احفظ بلادنا من شر الأشر وكيد الفجار، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا
، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا ، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا، اللهم أصلح أئمتنا
وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وبصّرهم بأعدائهم
والمتربصين بهم يا ذا الجلال والإكرام .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا لا
تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، ربنا اغفر لنا ولوالدينا
وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله
أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
وللمزيد من الخطب السابقة عن موسم عشر ذي الحجة تجدها هنا: http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=130
|