كان الناسُ أُمَّةً واحدة
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا الله تعالى, واعلموا أَنَّ دِينَ الإسلامِ هو دينُ الفِطرة, قال تعالى: ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ). وقال تعالى: ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ). قال ابن عباسٍ رضي اللهُ عنهما: " كانَ بَيْنَ آدمَ ونوحٍ عشرةُ قُرُونٍ كُلُّهُم على شريعةٍ مِنَ الحَقّ، فلما اختلفُوا بَعَثَ اللهُ النبيينَ والمُرْسَلين ". وكان أوَّلُهُم نوحاً عليه السلامُ. فالأصلُ في الناسِ هو التوحيدُ والإسلامُ، وأما الشركُ والكُفْرُ فهو أَمْرٌ طارِئٌ على البَشَريَّة. قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّهِ عز وجل: ( وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ, وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ). فما الذي حصَلَ للبَشَرِيَّةِ بعد القُرونِ العَشَرة؟ بعدما كانوا أُمَّةً واحدة؟. وما الذي جَعَلَ كثيراً مِنْهُم يَتْرُكُ دِينَه؟.
إنَّ مَبْدَأَ ذلك: فِتْنَةُ الغُلُوِّ في الصالحين, التي زَيّنَها الشيطانُ في قلوبِ كثيرٍ من الناس. فإنَّ: ( وَدًّا وسُواعاً ويَغُوثَ ويعُوقَ ونسرا ) الذين ذَكَرَهم اللهُ في كتابِه, قَبْلَ أن يكونوا أوثاناً تُعْبَدُ من دون الله, كانوا رجالاً صالحين, ولكن الغُلُوَّ فيهِم وتَعْظيمَهُم بالطُّرُقِ المُبْتَدَعةِ, جَعَلَهُم مَعَ مُرُورِ الأيامِ آلِهَةً تعبدُ من دون الله, يُعْكَفُ عندَ قُبُورِهِم ويتَرَدَّدُ على تماثيلِهِم, ويُدْعَونَ من دون الله, ويُعْطَونَ من الحقوقِ ما لا يجوزُ إلا لله, فبعثَ اللهُ تعالى نوحاً عليه السلامُ من أجْلِ إنكارِ هذا الشرك, وردِّ الناسِ إلى تَعْظِيمِ اللهِ وإفرادِهِ بالعبادة.
قال ابنُ عباس رضي الله عنهما, في تفسير الآيةِ التي في سورة نوح, في ذِكْر وَدٍّ وسُوَاعٍ ويَغُوثَ ويَعُوقَ ونسرٍ: " هذه أسماءُ رجالٍ صالحينَ مِن قومِ نوح، فلما هَلَكُوا, أوحى الشيطانُ إلى قومِهِم: أَن انْصِبُوا إلى مَجالِسِهِم التي كانوا يجلسون فيها أَنصابا، وَسَمُّوها بأسمائِهم, فَفَعَلُوا ولم تُعْبَد, حتى إذا هَلَكَ أولئِك، ونُسِيَ العلمُ؛ عُبِدَت ". قال ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: قال غَيْرُ واحدٍ مِن السَّلَف: " لَمَّا ماتُوا عَكَفُوا على قبورِهم، ثم صوَّرُوا تماثيلَهم، ثم طالَ عليهِمُ الأَمَدُ فَعَبدُوهُم ". فانظُرُوا يا عبادَ اللهِ كيفَ تَدَرَّجَ بِهِمُ الشيطانُ وتَنَقَّلَ بِهِم مِن مَرحلَةٍ إلى مَرْحَلَة. وهذا يَدُلُّ دِلالَةً واضِحةً على أن شِرْكَ القُبورِ قَدِيمٌ بِقِدَمِ الشرك, بل هو مَنْشأُ الوثنيةِ والعياذُ بالله. فإنَّ " اللاتَّ " الذي تَعْبُدُه ثَقيفٌ وقريشٌ قبلَ بِعْثَةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم, كانَ رجلاً صالحاً كريماً. وسُمِّيَ باللاتِّ, لأنه كان يَلُتُّ السويقَ للحجاج, ويُطْعِمُهُم. والسويقُ: هو دقيق الحِنْطَةِ أو الشعير, يُخْلَطُ بالسمن. قال ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهما: " كان يَلُتُّ السَّوِيقَ للحاجّ, فماتَ, فَعَكَفُوا على قَبْرِه ". وكان يَجْلِسُ على صَخْرَةٍ وهو يَلُتُّ السويقَ, فَعَظَّمُوا تلكَ الصخرة, وجعلُوا لها نُقوشاً, وجَعَلُوا لها بيتاً بالطائفِ له أستارٌ وسَدَنَةٌ, وحَولَه فِناءٌ مُعَظَّمٌ عندَ أهلِ الطائف, وَهُمْ ثَقيفٌ ومَن تابَعَها, يَفْتَخرون بها على مَنْ عَداهُم مِن أحياءِ العربِ بَعْدَ قُريش. لأنَّ اللَّاتَّ رَمْزٌ لِلكَرَم. وأيُّ كَرَمٍ أَعْظَمُ مِن إكرامِ مَن ينتابونَ إلى بيتِ اللهِ, وصناعةِ الطعامِ لَهُم؟. فصارتْ هذه الصخرةُ إلهاً يُعْبَدُ من دونِ الله, بسَبَبِ الغُلُوِّ في هذا الرجلِ والعُكوفِ عندَ قبرِه, مَعَ وجودِ مناسبةٍ أخرى زَيَّنَها الشيطانُ في نُفوسِهِم, وهي: اشْتِقاقُ اسمِ " الَّلاتِ " مِنَ " الإِلَه ". فانْظُرُوا يا عبادَ اللهِ كيفَ يَصْنُعُ الغُلُوُّ في نُفُوسِ الناس, ولذلك عُبِدَ عُزيرٌ, وعيسى عليه السلام, وغَلَت الرافضةُ في آلُ بيتِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم وأعطوهم من الحقوق ما لا يجوز إلا لله جل وعلا. وهذا هو السِّرُّ الذي جَعَلَ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم وهو في مَرَضِ الموتِ, يقول: ( لَعْنَةُ اللهِ على اليهودِ والنصارى, اتخذُوا قبورَ أنبيائِهِم مساجد ). ويُحَذِّرُ من الصلاةِ عندَ القبور, والبناءِ عليها, وتَجْصِيصِها, وزخرفتِها ورفعِها وتَشْييدِها.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمدُ للهِ الْواحدِ الأحدِ الصمدِ الذّي لَمْ يَلدْ وَلَمْ يُولدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحد، فَاطرِ السِّمَاواتِ وَالأَرْضِِ، جَاعَلِ الْمَلائكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحةً مَثْنَى وَثلاثَ وَرباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلِقِ مَا يَشاءُ، إنّ اللهَ على كُلِِّ شَيءٍ قَدِير، مَا يَفْتَحِِ اللهُ للنِّاسِ مِنْ رَحمةٍ فَلا مُمسكَ لها، وَمَا يُمسكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد:-
عباد الله: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن نُفُوذَ الشركِ إلى النُفُوسِ سريعٌ جدا, بِدَليلِ أنَّ إبراهيمَ عليه السلامُ, إمامَ الحُنفاءِ, دعا ربَّه أنْ يُجَنِّبَه عبادَةَ الأصنام, كما أخبرَ اللهُ عنه بِقَوْلِه: ( واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَنْ نَعبُدَ الأصْنام ). فإذا كانَ إبراهيمُ عليه السلامُ لا يأمَنُ البلاءَ, فَنَحْنُ أوْلَى أنْ نخافَ على أَنْفُسِنا وذُرِّيَتِنا, خُصُوصاً أَنَّه عليه السلامُ قال: ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كثيراً مِن الناس ). مِمَّا يَدُلُّ على عَظيمِ فِتْنَتَهِن. ومَنْ تَأمَّلَ تاريخَ البَشَريَّةِ وما حَدَثَ لِلأَنبياءِ مَعَ أقوامِهِم, عَرَفَ ذلك. فإِنَّ بني إسرائيلَ آمَنُوا بِموسى عليه السلامُ واتَّبَعُوه, وصَبَرُوا على ظُلُمِ فِرْعَونَ وجَبَرُوتِه وتَعذِيبِه. ورَأَوا مِنْ آياتِ اللهِ العَظِيمَة, والتي مِنها إهلاكُ فِرْعَونَ وقَومِه وَهُمْ يَنْظُرون. ومَعَ ذلكَ لَما جاوَزُوا البحرَ, أطاعُوا السامِرِيَّ فَعُبَدُوا العِجْلَ بِناءً على أنه إِلَهُهُم. ومِنْ ذلكَ ما جَرى في قِصّةِ ذاتِ أَنْواط, فَإِنها شَجرةٌ كانَ المُشركونَ يُعَلِّقُونَ بها أَسْلِحَتَهُم وأمْتِعَتَهُم طَلَباً لِلبَرَكَة, فَقالَ بَعْضُ مَنْ كان حديثَ عهدٍ بإسلامٍ, للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ( اجْعَلْ لَنا ذاتَ أنواطٍ, كَما لَهُم ذاتُ أنْوَاط ), فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( قُلْتُم والذي نفسي بِيدِهِ كَمَا قالت بَنُوا إسرائيلَ لِموسى: اجْعَلْ لَنا إلهاً كما لَهُمْ آلِهة ), فَبَيَّنَ لَهُم أنَّ حُكْمَ التَبَرُّكِ بالمَخْلُوقِ كَحُكْمِ العُكُوفِ عندَ الأصنام. ولذلك أخْفَى اللهُ تعالى مكانَ الشجرةِ التي حَصَلَ عِنْدَها بَيعَةُ الرضوان, كي لا يَفْتَتِنَ الناسُ بها. وقال عُمَرُ رضي اللهُ عنه في شأنِ الحَجَرِ الأسود: " إِنِّي أعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَع, ولولا أنِّي رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُك". وصُوَرُ الشِّركِ وأنواعُهُ وَوَسائِلُهُ ومَظاهِرُهُ كثيرةٌ يا عبادَ اللهُ, يجِبُ على المسْلِمِ أن يَعْرِفَ حقيقتَهُ كي يَجتَنِبَه, ويَعْرِفَ وسائِلَه كيْ يَحْذَرَها, ولا يَقَعَ في شيءٍ منها, فإنه أَعْظَمُ الذنوبِ والشُّرُور, وأَظْلَمُ الظُّلْمِ على الإطلاق. ولَعَظِيمِ فِتْنَتِهِ وخَطَرِهِ على الأُمَّة, قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم, ( وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلٌ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ, وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ ).
اللهم احفظ لنا ديننا, وثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة, وجنبنا الشرك صغيره وكبيره، اللهم حقق التوحيد في قلوبنا، وأعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم انصر جنودنا، اللهم انصر جنودنا، اللهم انصر جنودنا، اللهم اربط على قلوبهم وثبت أقدامهم وقوي عزائمهم واشف مرضاهم وتقبل موتاهم في الشهداء، اللهم احفظ لبلادنا أمنها، واحفظها ممن يكيد لها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أغثنا، غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت، اللهم أنزل علينا من السماء ماء مباركاً تُغيث به البلاد والعباد وتعُمَّ به الحاضر والباد، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك من جميع ذنوبنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |