لا عيشَ إلا عيشُ الآخرةِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد، أيُّها
الناسُ: اتَّقُوا اللهَ تَعالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ زَائِلٌ،
وَأَنَّ الْمَرَدَّ إلى اللهِ، وَأَنَّ الآخِرَةَ هِيَ دارُ القَرَارِ. فَقَدْ كانَ
رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: ( اللَّهُمَّ
لَا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ ). وَهَذا تَوْجِيهٌ لِلْأُمَّةِ،
لِأَنْ يَزْهَدُوا فِي الدُّنيا، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّها لَيْسَتْ بِشَيْءٍ،
وَأَنَّ العَيْشَ الحَقِيقِيَّ هُوَ عَيْشُ الآخِرَةِ عِنْدَمَا يَدْخُلُ الْمؤمنُ
الجنةَ، فَيَرَى مَالَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى
قَلْبِ بَشَرٍ. وَقَدْ ضَرَبَ النبيُّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلمَ مَثَلًا عَظِيمَا
لِذلِكَ بِقَوْلِهِ: ( مَا الدُّنْيا فِي الآخِرَةِ
إلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَه فِي اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعْ
). وَلَا شَكَّ أَنَّه لَنْ يَعْلَقَ بِإِصْبَعِهِ إلَّا البَلَلُ فَقَطْ،
وَسَوْفَ يَجِفُّ وَيَذْهَبُ. فَكَيْفَ تَتَعَلَّقُ أَيُّها الْمؤمنُ بِهذا
البَلَلِ اليَسِيرِ الذي سُرْعانَ مَا يَذْهَبُ مَعَ قِلَّتِهِ، وتَتْرُكُ البحرَ
بأكمَلِه؟!. إِنَّ فِي هذا الحديثِ فَوَائِدَ
وَعِبَرًا لِمَنِ اعْتَبَر: أَوَّلُها: بَيانُ حَقِيقَةِ الدنيا وَأَنَّها لَيْسَتْ
بِشَيْءٍ، فَهِيَ مَتَاعُ الغُرُورِ، وَلَهْوٌ وَلَعِبٌ، وَلَا تَزِنُ عِنْدَ
اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، فَكَيْفَ نَتَعَلَّقُ بِها؟. الثاني: بَيانُ عِظَمِ شَأنِ الآخِرَةِ، وَأَنَّ سَعْيَ الْمُؤمِنِ
لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ لَها، لِأَنَّها هِيَ البَاقِيَةُ. وَإِنَّ مِنَ السَّفَهِ
أَنْ نَهتَمَّ بِالفانِي، وَنتْرُكَ الباقِي. الثالِثُ: أَنَّه يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ والْمُرَبِّي، وَرَبِّ
الأُسْرَةِ، أَنْ يُعلِّقُوا قُلُوبَ مَنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِمْ
وَمَسْؤُولِيَّتِهِمْ بِالآخِرَةِ، وَأَنْ يَهْتَمُّوا بِذَلِكَ غَايَةَ
الاهْتِمامِ. لِأَنَّ القُلُوبَ هِيَ التي تُحَرِّكُ الجَوارِحَ، وَتَأْمُرُها
وَتَنْهاها. والواقِعُ
يا عِبادَ اللهِ يَشْهَدُ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِن الْمُسْلِمِينَ اليَوْمَ في
غَفْلَةِ عَنْ الآخِرَةِ، خُصُوصًا الشَّبابَ، وَلَيْسَ هُناكَ أَعْظَمُ مِنْ
شهادَةِ الواقِعِ الذي نَعِيشُهُ. فإنَّ اهْتِماماتِنا في الغالِبِ عَلى تَحْصِيلِ
الدُّنْيا وَمَصالِحَها وَمَا يُلْهِينَا فِيها. فَلَوْ
نَظَرْنَا إلى رَبِّ الأُسْرَةِ في بَيْتِهِ في الصَّباحِ الباكِرِ: وَهُوَ
يُوْقِظُ ابْنَهُ أَوْ بِنْتَهُ مِنْ أجْلِ الدِّراسَةِ، وَنَظَرْنَا إلى
اهْتِمامِهِ البالِغِ، بِلْ وأَحْيانًا يَبْكِي خَوْفًا عَلى مُسْتَقْبَلِهِمْ،
عِنْدَمَا يَرَى أَوْلادَهُ يَتَأَخَّرُونَ أَوْ يَتَغَيَّبُونَ، وَقَدْ
يَسْتَخْدِمُ القُوَّةَ مِنْ أَجْلِ مُواظَبَتِهِمْ. ثُمَّ نَظَرْنَّا إلى حالِهِ
مَعَهُمْ وَقْتَ الصلاةِ، لَرَأَيْتَ العَجَبَ، مِنْ البَلادَةِ والسُّكُوتِ
وَعَدَمِ الْمُتابَعَةِ لَهُمْ في أداءِ هذا الرُّكْنِ العَظِيمِ الذي جَعَلَه
اللهُ فارِقًا بَيْنِ الْمَرْءِ والكُفْرِ. فَإِنَّ لِهَذِهِ الطَّريقَةِ
تَأْثِيرًا عَلى النَّشْءِ، عِنْدَمَا يَتَرَبَّوْنَ عَلى تَعْظِيمِ الدُّنْيا،
وَعَدَمِ تَعْظِيمِ قَدْرِ الصلاةِ. وِممَّا
يَشْهَدُ لَهُ الواقِعُ أَيْضًا: حَالُنا
مَعَ الجَوَّالاتِ وَوَسائِلِ التَّواصُلِ، التي فَتَنَتْ أَكْثَرَ الناسِ اليَومَ،
وَمَا نَجِدُه مِنْ مُتْعَةٍ واصْطِلامٍ وَغِيابٍ لِلشُّعُورِ بِمُجَرَّدِ ما
نَشْرَعُ في فَتْحِها، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ، بَلْ إِنَّ البَعْضَ مِنَّا
مُسْتِعِدٌّ إلى أَنْ يَقْضِيَ يَوْمَهُ كُلَّه في التَجْوَالِ فِي عالَمِها بِلَا
مَلَلٍ وَلَا كَلَلٍ. لِأَنَّ القَلْبَ تَعَلَّقَ بِها وَبِفِتْنَتِها. فَيُقالُ لِمَنْ هذهِ حالُه: لا تَعْجَبْ
حِينَمَا تَرَى شَخْصًا يُدَاوِمُ قِراءَةَ القُرْآنِ وَمُطالَعَةَ المِصْحَفَ
وَسَمَاعَ القُرْآنِ، فَإِنَّ العِبْرَةَ بِتَعَلِّقِ القَلْبِ، لِأَنَّ مَنْ
أَحَبَّ شَيْئًا وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ، لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ شُغْلَه
الشاغِلَ. والأُمُورُ التي يَشْهَدُ لَها الواقِعُ في
تَعَلُّقِ قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَّا بِالدُّنْيا كَثِيرَةٌ، وَلَكِنْ ذَكَرْنا
هَذيْنِ الأَمْرَيْنِ مِنْ بابِ الْمِثالِ فَقَطْ. الفائِدَةُ
الرابِعَةُ التي دَلَّ عَلَيْها حَدِيثُ ( لَا
عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ ): أَنَّ
التَّعَلُّقَ بِالآخِرَةِ وَبِعَيْشِها، يَحُثُّكَ عَلَى مُصاحَبَةِ الصالِحِينَ
الذين يُعِينُونَ عَلَى ذِكْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ والاسْتِعْدادِ لِلْآخِرَةِ. الخامِسُ: أَنَّ التَّعَلُّقَ بِالآخِرَةِ وَبِعَيشِها، يَنْهى
العَبْدَ عَن التَّوَرُّطِ فِي حُقُوقِ الْمَخْلُوقِينَ، لِأَنّها مِنْ
أَعْظَمِ مَا يَضُرُّ العَبْدَ عِنْدَمَا يَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ اللهِ، وَمِنْ
أَعْظَمِ مَا يَأْكُلُ مَا جَمَعَهُ مِن الحَسَنَاتِ فِي الدُّنيا. السادس: أَنَّ التَّعَلُّقَ بِالآخِرَةِ وَبِعَيْشِهَا هُوَ الذي
يِحُثُّ عَلَى الاِسْتِكْثَارِ مِنْ الحَسَنَاتِ لِأَنَّها هِيَ
الاِدِّخارُ الصحيحُ، والْمُسْتَقْبَلُ الحَقِيقِيُّ، والتَّنافُسُ الْمَحْمُودُ. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الخطبة الثانية الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد: عِبادَ اللهِ: وَمِنْ
ثَمَرَاتِ تَعَلُّقِ القَلْبِ بِالآخِرَةِ وَبِعَيْشِها: أَنَّه
يَجْعَلُ العَبْدَ لَا يَتَحَسَّرُ عَلَى مَا يَرَى عَلَيْهِ أَهْلُ الثَّراءِ
ومُتْعَةِ الدُّنْيا مِنْ نَعِيمٍ، لِأَنَّه زَائِلٌ وَمَتَاعٌ قَلِيلٌ, وَلِذلِكَ
قال تَعالَى: ( وَلَا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا
مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ).
بَلْ وَلَا يَغْتَرُّ بِمَا يَرَى عَلَيْهِ أُمَمُ الكُفْرِ مِنْ مَتَاعِ الدنيا
وَانْفِتاحِها عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ، لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ جَنَّتَهُمْ فِي
دُنياهُمْ. قال تعالى: ( لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ
قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
). وَمِنْ ثَمَرَاتِ تَعَلُّقِ القَلْبِ بِالآخِرَةِ وَبِعَيْشِها:
انْضِباطُ أَمْرِ الغَيْرَةِ، بِحَيْثُ لَا يَغارُ العَبْدُ إلَّا عَلَى أَمْرِ
الدِّينِ. وَلِذَلكَ لَمْ يَنْتَصِرْ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ لِنَفْسِهِ
قَطُّ، فَإِذَا انْتُهِكَتْ مَحارِمُ اللهِ، غَضِبَ للهِ. بِخِلافِ
مَا عَلَيْه أَهْلُ الدنيا الذينَ يَجْعَلُونَ سَخَطَهُمْ وَرِضاهُم، وَمَا
يُسَمَّى بِتَحْقِيقِ الأَحْلامِ، مِنْ أَجْلِ الدُّنْيا، إِنْ أُعْطُوا رَضُوا،
وَإِنْ لَمْ يُعْطَوا إذا هُمْ يَسْخَطُونَ. إِنْ رَأَوا في بُيُوتِهِمْ
وأَهْلِيهِمْ وأَوْلادِهِمْ تَقْصِيرًا في أُمُورِ الدنيا، غَضِبُوا وأَقامُوا
الدنيا واَقْعَدُوها، وإِنْ رَأَوْا فِيهِمْ الْمَعاصِيَ أو التَّفْرِيطَ في
جَنْبِ اللهِ، فَإِنَّ الأَمْرَ سَهْلٌ وَبَسِيطٌ. فَيَا عِبادَ
اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تَعالَى، وَاْسْعَوْا لِلآخِرَةِ، فَإِنَّها
مَرَدُّكُم، وَلَا تُلْهِيَنَّكُم الدنيا، فَإِنَّها مَتَاعُ الغُرُورِ. اللَّهُمَّ
لاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ
تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ
أَعْمَارِنَا آخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا
يَوْمَ لِقَائِكَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ،
وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ
أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا
دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي
إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ زِيَادةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ
الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ
وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ
الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ المسلمين، اللهُمَّ ارفعِ البلاءَ عن
الْمستضعفينَ من الْمؤمنين في كلِّ مكانٍ، اللهُمَّ احِقن دماءَ الْمُسلِمِين،
اللهُمَّ انصرْ عِبادَك الْمُؤمنين في كلِّ مكانٍ يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ
احفظْ بَلادَنا مِن كَيدِ الكَائدِينَ وعُدْوانِ الْمُعْتَدِينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ
وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصَارِ
دِينِك، وَارْزقْهُم البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ،
اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَالمُؤْمِنِينَ
وَالمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ
الدَّعَوَاتِ، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html
|