من أسماء الله: السميع البصير
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله-صلى الله وسلم عليه- وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
عباد الله اتقوا الله تعالى واعلموا أن من أسماء الله الحسنى السميع البصير:
وقد تكرر ورودهما في غير ما آية منها قوله تعالى (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )) ، (( إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ))
و( السميع ): هو الذي يسمع جميع الأصوات على اختلاف اللغات وتفنن الحاجات، قد استوى في سمعه سرُ القول وجهره.
روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت (( الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات وذلك في قصة المرأة التي أتت النبي صلى الله عليه وسلم تجادله في زوجها ... الحديث ))، بل لو قام الجن والإنس كلهم من أولهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها في صعيد واحد وسألوا الله جميعا في لحظة واحدة وكل تحدث بلهجته ولغته لسمعهم أجمعين دون أن يختلط عليه صوت بصوت أو حاجة بحاجة .
أيها المؤمن إن إيمانك بأن ربك ( سميع ) يورثك حفظاً للسانك وصيانة لكلامك ومواظبة على ذكر ربك وشكره والإكثار من التوسل إلى الله بهذا الاسم العظيم لكي يحقق رجاءك ويعطيك سؤلك وقد كثر في القرآن توسل الأنبياء إلى الله بهذا الاسم في دعائهم ومن ذلك قول إبراهيم عليه السلام: ((إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ))، وفي دعاء زكريا أن يرزقه الذرية الصالحة قال: (( إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء )) فأجابهم سبحانه وتعالى أجمعين.
وأما اسم البصير، فمن الآيات قوله تعالى: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))، وقوله تعالى: (( إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ))، وقوله تعالى: (( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ))
والبصير أي: الذي يرى جميع المُبْصَرات، ويُبْصِر كلَّ شيءٍ، وإن دقَّ وصغر، فيبصر-تبارك وتعالى- دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، ويرى مجاري القوت في أعضائها، ويرى جريان الدم في عروقها، ويبصر ما تحت الأرضين السبع كما يبصر ما فوق السماوات السبع، ويرى-تبارك وتعالى- تقَلُّبات الأجفان وخِيانات العيون.
قال ابن القيم-رحمه الله: " البصير الذي لكمال بصره، يرى تفاصيل خلْقَ الذرة الصغيرة، وأعضَائها، ولحمَها، ودمَها، ومخَّها، وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ".
ومما يجب الإيمان به: أنه-تبارك وتعالى- يُبْصِر بعينين تليقان بجلاله وكماله سبحانه، قال تعالى: (( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ))، وقال تعالى: (( وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ ))، وقال تعالى: (( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي )).
وقد دلَّ الحديث الصحيح عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أن لله عينين، حين وصف-عليه الصلاة والسلام- المسيح الدجال فقال عليه السلام: ( إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور) متفق عليه. وتنزيهه سبحانه عن العَوَر، دليل على ثبوت العينين له –سبحانه- على الوجه اللائق به.
ثم إن لهذا الاسم العظيم، مقْتضياتِه من الذل والخضوع، ودوام المراقبة والإحسان في العبادة، والبعد عن المعاصي والذنوب.
ومن يتأمل الآيات الواردة في القرآن الكريم مختومة بهذا الاسم، وهي تزيد على الأربعين، يتبين له ذلك، ولنقف من ذلك على بعض الأمثلة:
* ختم-جل وعلا- بهذا الاسم قوله: (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير ))، وهذا يقتضي، سمعه لجميع أصوات ما سكن في الليل والنهار، وبَصَره بحركاتهم، على اختلاف الأوقات، وتباين الحالات.
* وختم به قوله: (( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ))، منبِّهًا بذلك أنه سبحانه بصير بأحوال عباده، خبير بها، بصير بمن يستحق الهداية، ممن لا يستحقها، بصير بمن يصلح حاله بالغنى والمال، وبمن يفسد حاله بذلك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداُ عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
وتأمل عبد الله هذه الآيات وفائدة ختمها باسم البصير قال تعالى: (( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ))، أي: بصير بالصالح والطالح، والمؤمن والكافر، ويجزي كلاً بما يستحق.
* وختم سبحانه به قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ))، مهدِّدًا، ومتوعدًا، من يلحدون في آياته، بأنه بصير بهم، مطَّلع عليهم، وسيجازيهم يوم القيامة على ما اقترفوه من إلحادٍ في آيات الله.
* وختم به تبارك وتعالى قوله: (( وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ))، وهذا فيه وعدٌ منه سبحانه، أنه لا يَضِيع عنده شيء، من أعمال الخير التي قدموها لأنفسهم، وأنه بصير بهم، وسيثيبهم على ذلك عظيم الثواب.
وبهذه الأمثلة يُعلم أن استحضار العبد بِكون الله سبحانه بصيراً به، مطَّلعًا عليه، يفيده فائدة عظيمة، في جانبي الترغيب والترهيب، كما هو واضح في الأمثلة المتقدمة.
فإذا أحسن العبد في عبادته لربه، ومجانبته لمعاصيه، مستحضراً رؤية الله له، وإطلاعه عليه، فهذا مقام الإحسان، وهو أعلى مقامات الدين، كما قال-عليه الصلاة والسلام- في بيان حقيقة الإحسان قال: ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
وكم من شخصٍ، كَفَّ عن مفَارفة المعاصي، وفِعل الذنوب، لاستحضاره رؤية الله-تبارك وتعالى- له. قال ابن رجب-رحمه الله-: "راود رجلٌ امرأة في فَلاة ليلاً، فأبت، فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت فأين مُكَوكِبُها- أي: أين الله- ألا يرانا. قال الله تعالى: (( أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى )) وكفى بهذا زاجراً ورادعاً وواعظاً.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا ، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفهم شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم وأذلّ الشرك والمشركين اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم آمنّا في الأوطان والدور، وأصلح لنا الأئمة وولاة الأمور، اللهم وفقّهم بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارزقهم بطانة الصلاح وأهل الخير وأبعد عنهم أهل الزيغ والفساد، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات انك سميع قريب مجيب الدعوات اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
|