((خطبة في تفسير سورة الزلزلة ))
الحمد لله بين لنا طريق النجاة وأمرنا بلزومه , وبين لنا طريق الهلاك وحذرنا من سلوكه , واشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له , واشهد أم محمد عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا 0 أما بعد فاتقوا الله عباد الله 0 أيها الإخوة المسلمون : سورة من سور القرآن الكريم جاء فيها وصف لجزء من يوم القيامة , حري بكل مسلم أن يقف عندها , متدبرا متفكرا , إنها سورة الزلزلة , فهي سورة مدنية ، أي نزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة النبوية , وهي في أسلوبها تشبه السور المكية ، لما فيها من أهوال وشدائد يوم القيامة ما يبهر العقول , ويحرك مكامنها ، وهي تتحدث عن الزلزال العنيف الذي يكون بين يدي الساعة ، حيث يندك كل صرحٍ شامخ ، وينهار كل جبل راسخ ، ويحصل من الأمور العجيبة الغريبة ما يندهش له الإِنسان ، كإِخراج الأرض ما فيها من موتى ، وإِلقائها ما في بطنها من كنوز ثمينة من ذهبٍ وفضة، وشهادتها على كل إِنسان بما عمل على ظهرها تقول : "عملت يوم كذا، كذا وكذا "، وكل هذا من عجائب ذلك اليوم الرهيب، كما تتحدث عن انصراف الخلائق من أرض المحشر إِلى الجنة أو النار، وانقسامهم إِلى أصناف ما بين شقي وسعيد. ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) 0 ابتدأت السورة بقوله تعالى :
( إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ) أي إِذا حُركت الأرض تحريكاً عنيفاً، واضطربت اضطراباً شديداً، واهتزت بمن عليها اهتزازاً يقطع القلوب, ويُفزع الألباب كقوله تعالى : ( يأيها الناس اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) قال المفسرون: إِنما أضاف الزلزلة إِليها تهويلاً , كأنه يقول: الزلزلة التي تليق بها على عظم جرمها ، وذلك عند قيام الساعة تتزلزل وتتحرك تحريكاً متتابعاً ، وتضطرب بمن عليها، ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل وشجر وبناءٍ وقلاع , ثم قال تعالى : ( وأخرجتِ الأرضُ أثقالها ) هذا عطف على ما سبق ولا يزال الكلام في وصف المشهد الرهيب , أي وأخرجت الأرض ما في بطنها من الكنوز والموتى قال ابن عباس: أخرجت موتاها . وفي الحديث " تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلتُ ، ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارقُ فيقول في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً " . ثم قال سبحانه ( وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا) ؟ يقول : ما للأرض تزلزلت هذه الزلزلة العظيمة، ولفظت ما في بطنها ؟! يقول ذلك دهشة وتعجباً من تلك الحالة الفظيعة , فحينها ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) أي في ذلك اليوم العصيب - يوم القيامة - تتحدث الأرض وتخبر بما عُمل عليها من خير أو شر، وتشهد على كل إِنسان بما صنع على ظهرها،" فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) فقال: أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلم، قال: فإِن أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ أو أمةٍ بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا، كذا وكذا، فهذه أخبارها " وفي الحديث الآخر: " تحفَّظوا من الأرض فإِنها أمكم ، وإِنه ليس من أحدٍ عاملٍ عليها خيراً أو شراً إِلا وهي مخبرة به" , ثم قال تعالى ( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) أي ذلك الإِخبار بسبب أن الله جلت قدرته أمرها بذلك ، وأذن لها أن تنطق بكل ما حدث وجرى عليها، فهي تشكو العاصي وتشهد عليه، وتشكر المطيع وتثني عليه ، والله على كل شيء قدير . ثم قال تعالى واصفا حال الناس في ذلك اليوم الرهيب العصيب (يومئذ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا ) يرجع الخلائق من موقف الحساب، وينصرفون متفرقين فرقاً فرقاً ، فآخذٌ ذات اليمين إِلى الجنة، وآخذٌ ذات الشمال إِلى النار ( لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) لينالوا جزاء أعمالهم من خير أو شر ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ) أي فمن يفعل من الخير زنة ذرةٍ من التراب يجده في صحيفته يوم القيامة ويلق جزاءه عليه , قال بعض المفسرين : الذرةُ أصغرُ النمل 0 وقال ابن عباس: إِذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها ، فكلُّ واحد مما لصق به من التراب ذرة 0 ثم قال تعالى :( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) أي ومن يفعل من الشر زنة ذرةٍ من التراب ، يجده كذلك ويلق جزاءه عليه , قال القرطبي رحمه الله : وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى في أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة، وهو مِثْلَ قوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ).
هذا تفسير هذه السورة قد سمعتموه مختصرا – أيها الإخوة - عله يكون رافدا للتزود من العلم والمعرفة , حاثا على العمل والإخلاص 0
بارك الله لي ولكم في القول الصالح والعمل , وجنبنا مزالق السوء والزلل أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروا ربكم وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم 0
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد فاتقوا الله عباد الله . أيها الإخوة المسلمون :
في وسورة الزلزلة نقلت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مسكينا ويتيما وأسيرا ) ، كان المسلمون يرون أنهم لا يُؤْجَرون على الشيء القليل ، إذا أَعْطَوْه ، وكان آخرون يرون أنهم لا يُلامون على الذنب اليسير: الكذبة ، والنظرة ، والغيبة ، وأشباه ذلك، ويقولون: إنما وعد الله النار على الكبائر، فأنزل الله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه).
وقد سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ....) الجامعة الفاذّة، حين سئل عن زكاة الْحُمُر، فقال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : "ما أنزل الله فيها شيئاً إلا هذه الآية الفاذَّة الجامعة: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)". أيها الإخوة المسلمون : تعلموا كتاب ربكم , ففيه الهدى من الضلالة , والرشد من الغواية , والعلم من الجهالة , والسعادة من الشقاوة , وفيه الخير كله , والتحذير من الشر كله , وفيه ذكركم , وعزكم ومجدكم، وقد أمركم الله فيه بذكره فقال تعالى ( فاذكروني أذكركم ......) 0
فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم , فقد أمركم بذلك ربكم ، وبالمزيد قد عدكم , فقال تعالى ( ...... لان شكرتم لأزيدنكم .............)
اللهم أصلح أحوالنا وردنا إلى الحق ردا حميدا .......... إلى آخر الدعاء 0
|