أَمانَةُ
الكَلِمَةُ والتحذيرُ مِن الغِيبَةِ والنميمةِ وَبَثِّ الشائِعاتِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الناس:
اتقُوا اللهَ تعالى، واعلَمُوا أَنَّ الكَلِمَةَ فِي الإسلامِ لَها وَزْنُها
وَمَسْؤُولِيَّتُها، وَأَنَّ العَبْدَ مَأْمُورٌ بِالقَوْلِ السَّدِيدِ، وَحِفْظِ
اللِّسانِ إلَّا عَنْ الخَيْرِ، قال تعالى: ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا
)، أَيْ: قُولُوا فِي جَمِيعِ أَحْوالِكُم وَشُؤُونِكُمْ، قَوْلًا مُسْتَقِيمًا،
مُوافِقًا لِلصَّوَابِ، وَخَالِيًا مِن الكَذِبِ والباطِلِ. وَقَال تَعالَى: ( مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
). أَيْ: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ يَتَلَفَّظُ بِهِ الْمَرْءُ، إلَّا لَدَيْهِ
مَلَكٌ يَرْقُبُ قَوْلَهُ وَيَكتُبُه، وَهُوَ مَلَكٌ حاضِرٌ في كُلِّ وَقْتٍ.
فَالعَبْدُ مُؤَاخَذٌ بِمَا يَقُولُ في
الدنيا والآخِرَةِ. وَلَيْسَ حُرًّا في ذلك. وَلَيْسَ في الإسلامِ مَا يُسَمَّى
بِحُرِّيَّةِ الكَلِمةِ وَالتَّعْبِيرِ – أَعْنِي: الحُرِّيَّةَ الْمُطْلَقَة -
وَإِنما هو مُقَيَّدٌ بِما لا يُخالِفُ الشَّرْعَ. وهذا لا يُسَمَّى إقْصاءً وَلَا
تَكْمِيمًا لِلْأَفْواهِ، كَمَا يُسَمِّيهِ دُعاةُ الانْفِلَاتِ، الذين يُطْلِقونَ
لِأَلسِنَتِهِم وأقلامِهم العِنانَ، حَيْثُ يَجْعَلُونَ ذلك شَمَّاعَةً
يُعَلِّقونَ بِها مَا يَقُولُونَ أَوْ يَكْتُبونَ. بَلْ هُوَ عَيْنُ الْمَصْلَحَةِ
والحِكْمَةِ، وَحِمايَةٌ لِلْإنسانِ مِنْ أَخْطاءِ لِسانِهِ وَقَلَمِهِ،
وَحِمايَةٌ لِلناسِ مِنْ انْتِشارِ الباطِلِ وَتَلْويثِ الأَعْراضِ. وَحِرْصٌ مِن
الشارِعِ الحَكِيمِ عَلَى نَشْرِ الخَيْرِ والتَّوْجِيهِ الصالِحِ، لِأَنَّ
الخَيْرَ يَنتَشِرُ بِالدعْوَةِ والكَلِمَةِ الطيِّبةِ. وَلِذلك صارَ سُكُوتُ
اللَّسانِ إلَّا عَنْ الخَيْرِ مِنْ عَلاماتِ كَمَالِ الإيمانِ، قال رسولُ اللهِ
صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللهِ
واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ). وَقال رَسولُ
اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ لِمُعاذِ بْنِ جَبَلٍ: ( وَهَلْ
يَكُبُّ الناسَ في النارِ عَلَى وُجُوهِهِم، أَوْ قال عَلَى مَناخِرِهِم, إلا
حِصَائِدُ أَلْسِنَتِهِم ).
وَالعَبْدُ قَدْ يَخْرُجُ مِنَ الإسلامِ
بِسَبَبِ كَلِمَةٍ، كَمَا قال تَعالَى في الذين اسْتَهْزَؤُوا بِالنَّبِيِّ صلى
اللهُ عليه وسلم وأصحابِه: ( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ
لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ
وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ ).
وَكَذَلِكَ أَمَرَ اللهُ تَعالَى بِجَلْدِ
القاذِفِ ثَمانِينَ جَلْدَة، وَوَصَفَهُ بالفِسْقِ وَنَهَى عَنْ قَبُوِل
شَهادَتِهِ لِزَوالِ وَصْفِ العَدالَةِ عَنْهُ بِسَبَبِ القَذْف. وَكثيرٌ مِنَ
المسلمين اليَوْمَ يَتَساهَلُونَ فِي رَمْيِ التُّهَمِ وَتَشْوِيهِ السُّمْعَةِ
بِدُونِ بَيِّنَةٍ، وَقَدْ قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ قالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللهَ
رَدْغَةَ الخَبَالِ حتى يَخْرُجَ مِمَّا قال ).
وَمِنْ أَخْطَرِ
آفاتِ اللِّسانِ: الغِيبَةُ والنَّمِيمَةُ.
فَأَمَّا الغِيبَةُ فَقَدْ
فَسَّرَها النبيُّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم بِقَوْلِهِ: ( ذِكْرُكَ أَخاكَ بِمَا يَكْرَه ). وقال رسول اللهِ صلى الله عليه
وسلم: ( لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ
أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ
هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ
النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ ). وَما ذاكَ إِلَّا لِأَنَّ
الغِيبَةَ مَعَ البُهْتانِ والقَذْفِ مِنْ أشَدِّ الذُّنُوبِ التي لا تُتْرَكُ،
وَتَأْكُلُ حَسَناتِ الْمَرْءِ في الآخِرَةِ، حَتَّى لَوْ كانَتْ صَلاةً أَوْ
صِيامًا أَوْ زكاةً، فَمَا بَالُكُمْ بِما دُونَ ذلكَ مِن العِباداتِ؟ لِقَوْلِ
النبيِّ صلى اللهُ عَليهِ وسلم: ( إِنَّ الْمُفْلِسَ
مِنْ أُمَّتِي، مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيامٍ وَزَكاةٍ،
وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هذا، وَأَكَلَ مَالَ هذا، وَسَفَكَ دَمَ
هذا، وَضَرَبَ هَذَا, فَيُعْطِى هَذَا مِنْ حَسَناتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَناتِهِ
...... الحَدِيث ).
وَأَمَّا
النَمِيمَةُ: فَهِيَ نَقْلُ الكَلامِ الذي يُثِيرُ الضَّغِينَةَ والحِقْدَ،
وَيَنْشُرُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ. فالنَمَّامُ هُوَ الذي يَنْقُلُ الكَلامَ
بَيْنَ شَخْصَيْنِ فَيَتَسَبَّبُ في تَفْرِقَتِهِمَا، أَوْ يَنْشُرُ الكَلامَ في
أَوْساطِ أَقارِبِهِ وأصْحابِهِ وَزُمَلائِهِ فَيَتَسَبَّبُ في تَباغُضِهِمْ
وَتَقاطُعِهِمْ. فَالنَّمامُ خَبِيثُ النَّفْسِ، مُفْسِدٌ في الأَرْضِ.
وَجَريمَتُهُ مِنْ أسْبابِ عَذابِ القَبْرِ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ فِي
شَأنِهِ: ( لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ:
عِبادَ اللهِ: وَيَدْخُلُ في النَّمِيمَةِ: بُثُّ الإشاعاتِ الْمُغْرِضَةِ،
والافْتِراءَاتِ الآثِمَةِ، خاصَّةً فِي أَوْقاتِ الأَزَمَاتِ والفِتَنِ، حِينَما
تَكُونُ الأُمَّةُ في أمَسِّ الحاجَةِ إلى تَوْحِيدِ الكَلِمَةِ وَضَبْطِ
الأَمْنِ.
وَبِقِراءَةِ
قَصَصِ الأنبياءِ في القُرْآنِ، نَجِدُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُم قَدْ أُثِيرَتْ
حَوْلَهُ الإشاعاتُ مِنْ قِبَلِ قَوْمِهِ، والتي كانَ لَها الأَثَرُ في جَعْلِ
بَعْضِ الْمُعَوِّقاتِ في طريقِ دَعْوَتِهِم. وكذلك عائقًا في طريقِ دعوةِ
وَرَثَةِ الأنبياءِ مِن العُلَماءِ. وَانْظُرُوا إلى مَدَى تَأْثِيرِها فِي
نُفُوسِ الناسِ خُصوصًا الشبابَ الذين هُم عِمادُ الأُمَّةِ. فَكَمْ مِنْ شابٍّ
وَقَعَ في الغُلُوِّ والتكفيرِ بِسَبَبِ انْعِزالِهِ عن العُلَماءِ، أو في
البِدَعِ أو الحِزْبِيَّةِ، نَتِيجَةَ ما يَسْمَعُ مِن التَّهْوِينِ مِنْ شَأْنِ
العُلَماءِ، أَوْ ما يُشاعُ حَوْلَهُم.
ومِنْ
أَخْطَرِ أُمُورِ الإشاعَةِ: ما يَكُونُ في حَقِّ وُلاةِ
الأَمْرِ، والسَّعْيِ في تَشْوِيهِ سُمْعَتِهِمْ، مِمَّا يُسَبِّبُ في تَعْبِئَةِ
الناسِ وَإيغارِ الصُّدُورِ عَلَيْهِم، وهذا مِنْ أَفْسَدِ ما يَكُونُ في أَمْرِ
الإشاعَةِ، وهُو سِلاحُ الْمُفْسِدِينِ، وأَعْداءِ الجماعَةِ وَوِحْدَةِ الصَّفِّ.
ولَهُ رَواجٌ، لأَنَّه يُزَخْرَفُ لِلناسِ أَحْيانًا باسْمِ الغَيْرَةِ ومَحَبَّةِ
الوَطَنِ.
اللهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأَخْلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها
إلا أَنْتَ، واصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَها إلا أَنْتَ،
اللهُمَّ آتِ نفوسَنا تقواها وزَكِّها أنت خيرُ مَنْ زكَّاها أنت وليُّها ومولاها،
اللهُمَّ خَلِّصْنا من حقوقِ خَلْقِكَ، وباركْ لنا في الحلالِ من رِزْقِك،
وتوفَّنا مسلِمين وألحقْنا بالصالحين، اللهمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ
أَسْماعِنَا، وأَبْصارِنا، وأَلْسِنَتِنا، وَقُلُوبِنا، وَفُرُوجِنا، اللهُمَّ إنا
نعوذُ بك مِنْ جَهْدِ البلاءِ ودَرَكِ الشَّقَاءِ وسُوءِ القَضَاء وشَمَاتَةِ
الأَعْداءِ، اللهُمَّ إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتِك وتحوُّلِ عافيتِك وفُجْأَةِ
نقمتِك وجميعِ سَخَطِك، اللهُمَّ احفظْ لهذه البلادِ دينَها وعقيدتَها وأمنَها
وعزتَها وسيادتَها، اللهُمَّ أصلحْ حُكَّامَها وأهلَها واجمعْ كلمتَهم وأَلِّفْ
بين قلوبِهم واجْعَلْهم يداً واحدةً على مَنْ عَداهُم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ
اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ،
الأحْيَاءِ مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ،
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119