(خطبة جمعة / في التواضع)
الحمد لله ذي العز والكبرياء , القائل سبحانه " الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَدْخَلْتُهُ النَّارَ " .أحمده حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه , وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمد عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله , وجميع أصحابه , ومن سار على نهجم واقتفى أثرهم 0
( يائيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون )
عباد الله : من أعظم ما يعاقب به العبد في هذه الدنيا : أن يجهل حقيقة نفسه , فإذا كان الإنسان بهذه المثابة فقد جمع أنواع من الشرور والمنكرات , وكان حاله : كمن زين له سوء عمله 0 يصدر من خطأ , ويرد على خطأ , ولا يصدر منه الا خطأ 0 سمة وصفة جميلة فقدها الكثير من الناس , وسببت وجود ما يضدها مسببات 0
هي صفة من صفات الانبياء والمرسلين , رباهم الله عليها فتربوا وربوا أتباعهم عليها , الناس والمجتمع بأمس الحاجة اليها , حيث أسباب التمايز بينهم موجودة , والدوافع الي أضدادها مغرية , وسهلت المنال ,
أما تلك الصفة – أيها الاخوة - فهي : صفة التواضع ,
الذي معناه : خفض الجناح لمن تتعامل معه , وقبول الحق أيا كان قائله , ومصدره 0 هذا المعنى يستطيع تحقيقه من تجرد عن حظوظ النفس الأمارة بالسوء , وتغلب على هواه وشطانه , ومن أدرك جيدا ان هذا الخلق الجميل هو خلق الأنبياء سيحدوه ذلك الى التأسي بهم , فهذا برنا تبارك وتعالى يخاطب نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم بان يتحلى بهذا الخلق الرفيع ( واخفض جناحك للمؤمنين ) ( واخفض جناحك لم اتبعك من المؤمنين ) وينهاه سبحانه عن إتيان ما يضاده ( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الارض مرحا ان الله لا يحب كل مختال فخور )
ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الامثلة في ذلك كيف لا وهو الحاث على ذلك والداعي اليه بقوله وفعله : فقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما نقصت صدقةٌ من مال ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزّاً ، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله " .
قال النووي رحمه الله : قوله صلى الله عليه وسلم : " وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله " : فيه وجهان :
أحدهما : يرفعه في الدنيا , ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة , ويرفعه الله عند الناس , ويجل مكانه .
والثاني : أن المراد ثوابه في الآخرة , ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا . قال العلماء : وقد يكون المراد الوجهين معا في جميعها في الدنيا والآخر،
ولجلب التواضع للنفس أسبابا ذكرها ابن القيم رحمه الله فقال :
التواضع يتولد من العلم بالله سبحانه ، ومعرفة أسمائه وصفاته ، ونعوت جلاله ، وتعظيمه ، ومحبته وإجلاله ، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها ، وعيوب عملها وآفاتها ، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو " التواضع " ، وهو انكسار القلب لله ، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده ، فلا يرى له على أحدٍ فضلاً ، ولا يرى له عند أحدٍ حقّاً ، بل يرى الفضل للناس عليه ، والحقوق لهم قِبَلَه ، وهذا خلُق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبُّه ، ويكرمه ، ويقربه . انتهى كلامه رحمه الله 0
أيها الاخوة : بأي شيئ يكون التواضع ومع من ؟ التواضع يكون في أشياء كثيرة منها :
1. تواضع العبد عند أمر الله امتثالاً وعند نهيه اجتناباً . قال ابن القيم : فإن النفس لطلب الراحة تتلكأ في أمره ، فيبدو منها نوع إباء هرباً من العبودية ، وتتوقف عند نهيه طلباً للظفر بما منع منه ، فإذا وضع العبد نفسه لأمر الله ونهيه : فقد تواضع للعبودية .
2 . تواضعه لعظمة الرب وجلاله وخضوعه لعزته وكبريائه . قال ابن القيم رحمه الله : فكلما شمخت نفسُه : ذَكَر عظمة الرب تعالى ، وتفرده بذلك ، وغضبه الشديد على من نازعه ذلك ، فتواضعت إليه نفسه ، وانكسر لعظمة الله قلبه ، واطمأن لهيبته ، وأخْبت لسلطانه ، فهذا غاية التواضع ، وهو يستلزم الأول من غير عكس . ( أي يستلزم التواضع لأمر الله ونهيه ، وقد يتواضع لأمر الله ونهيه من لم يتواضع لعظمته ) والمتواضع حقيقة : من رزق الأمرين ، والله المستعان 0
3. التواضع في اللباس والمشية . عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينما رجل يجرُّ إزاره من الخيلاء خُسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة " . رواه البخاري 0ومعنى يتجلجل : ينزل في الأرض مضطرباً متدافعاً .
4. التواضع مع المفضول فيعمل معه ويعينه . عن البراء بن عازب قال كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب ولقد رأيته وارى التراب بياض بطنه يقول : لولا أنت ما اهتدينا نحن ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا إن الألى وربما قال الملا قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا أبينا يرفع بها صوته . رواه البخاري ومسلم
5. التواضع في التعامل مع الزوجة وإعانتها . عن الأسود قال : سألتُ عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله - تعني : خدمة أهله - ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة . رواه البخاري قال الحافظ ابن حجر : وفيه : الترغيب في التواضع وترك التكبر ، وخدمة الرجل أهله .
6. التواضع مع الصغار وممازحتهم عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس خلُقاً ، وكان لي أخ يقال له " أبو عمير " - قال : أحسبه فطيماً - وكان إذا جاء قال : يا أبا عمير ما فعل النغير . رواه البخاري ومسلم قال النووي : " النُّغيْر " وهو طائر صغير . و" الفطيم " بمعنى المفطوم . وفي هذا الحديث فوائد كثيرة جدّاً منها : ... ملاطفة الصبيان وتأنيسهم , وبيان ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من حسن الخلُق وكرم الشمائل والتواضع .
7 . التواضع مع الخدم . عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه وليَ حرَّه وعلاجَه . رواه البخاري ومسلم 0ومعنى " ولي حرَّه وعلاجه " : أي عانى مشقة صُنع الطعام والقيام على تقديمه ، وفي رواية مسلم " وليَ حرَّه ودخانه " .
هذه انواع من التواضع المطلوب – أيها الإخوة – فلنتحلى بها ولنسع في تحقيقها ما أمكننا ذلك 0
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين , فاستغفروا ربكم وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم 0
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد كثيرا طيبا مباركا فيه , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين 0
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله
أيها الإخوة المسلمون : يضاد خلق التواضع التكبر والكبر والترفع على من لم يستحق ذلك , ولا شك أن أول ذنب عصي الله فيه هو التكبر الذي صدر من إبليس حينما أمره الله بالسجود لآدم قال تعالى ( إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ) , وقد حصل له من جراء فعله هذا ما قص الله علينا في كتابه العزيز ( قال اخرج منها مذؤوما مدحورا ) وقال :( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) 0
في المجتمع - أيها الإخوة - عدد كثير ممن فقدوا هذا الخلق الكريم وهو : التواضع , أن رزقهم الله مالا تكبروا , أو رزقهم وضيفة , أو رزقهم شهادة علمية رفيعة , أو رزقهم الله جاها ونفوذا في المجتمع وعند المسئولين , أو كانوا ذوي نسب وشرف وسيادة 0
وليعلم من كان هذا حاله أن الله سبحانه يقول ( إن أكرمكم عند الله اتقاكم ) يقول النبي صلى الله عليه وسلم " كلكم لأدم وآدم من تراب " ويقول عليه الصلاة والسلام أيضا " من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه " والنسب لم ينفع أبا جهل وأبا لهب وغيرهم من صناديد الكفر والإباء , فكانوا من أهل النار , كما أنه لم يبعد بلالا وصهيبا , وسلمان الفارسي فكانوا من أهل الجنة 0
والتواضع لا يزيد المرء إلا رفعة وعزة , وقد كان أبو بكر - رضي الله عنه- يذهب إلى كوخ امرأة عجوز فقيرة ، فيكنس لها كوخها، وينظفه، ويعد لها طعامها، ويقضي حاجتها . وقد خرج - رضي الله عنه - يودع جيش المسلمين الذي سيحارب الروم بقيادة أسامة بن زيد - رضي الله عنه- وكان أسامة راكبًا، والخليفة أبو بكر يمشي، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، لَتَرْكَبَنَّ أو لأنزلنَّ، فقال أبو بكر: والله لا أركبن ولا تنزلن، وما علي أن أُغَبِّرَ قدمي ساعة في سبيل الله.
وقد حمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الدقيق على ظهره، وذهب به إلى بيت امرأة لا تجد طعامًا لأطفالها اليتامى، وأشعل النار، وظل ينفخ حتى نضج الطعام، ولم ينصرف حتى أكل الأطفال وشبعوا. *ويحكى أن رجلا من بلاد الفرس جاء برسالة من كسرى ملك الفرس إلى الخليفة عمر، وحينما دخل المدينة سأل عن قصر الخليفة، فأخبروه بأنه ليس له قصر فتعجب الرجل من ذلك، وخرج معه أحد المسلمين ليرشده إلى مكانه. وبينما هما يبحثان عنه في ضواحي المدينة، وجدا رجلا نائمًا تحت شجرة، فقال المسلم لرسول كسرى: هذا هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. فازداد تعجب الرجل من خليفة المسلمين الذي خضعت له ملوك الفرس والروم، ثم قال الرجل: حكمتَ فعدلتَ فأمنتَ فنمتَ يا عمر.
وهذا الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز نزل عليه رجل ضيفا وأثناء جلوسهما انطفأ المصباح، فقام الخليفة عمر بنفسه فأصلحه، فقال له الضيف: يا أمير المؤمنين، لِمَ لَمْ تأمرني بذلك، أو دعوت من يصلحه من الخدم، فقال الخليفة له: قمتُ وأنا عمر، ورجعتُ وأنا عمر ما نقص مني شيء، وخير الناس عند الله من كان متواضعًا. والنماذج في التاضع من هدي السلف كثيرة 0
وخير من تواضع صفوة الخلق محمد صلى الله عليه وسلم , خيره الله -سبحانه- بين أن يكون عبدًا رسولا، أو ملكًا رسولا، فاختار أن يكون عبدًا رسولا ؛ تواضعًا لله عز وجل ولما سألت عائشة -رضي الله عنهما- ما كان النبي يصنع في بيته؟ فقالت: كان في مهنة أهله , يساعدهم ، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة. وكان يحلب الشاة، ويخيط النعل، ويُرَقِّع الثوب، ويأكل مع خادمه، ويشتري الشيء من السوق بنفسه، ويحمله بيديه، ويبدأ من يقابله بالسلام ويصافحه، ولا يفرق في ذلك بين صغير وكبير أو أسود وأحمر أو حر وعبد ، وكان صلى الله عليه وسلم لا يتميز على أصحابه، بل يشاركهم العمل ما قل منه وما كثر. وسيرته العطرة شاهدة بذلك فمن أراد الاستزادة فليرجعها في مضانها , ومن أراد التأسي فربنا تبارك وتعالى يقول ( ولكم في رسول الله أسوة حسنة................) 0
اللهم أصلح أحوال المسلمين ........................... الى آخر الدعاء ....
|