التذبذب في الشخصية – خطبة جمعة في تاريخ / 23/3/ 1430هـ
الحمد لله خلق الإنسان وميزه بالعقل عن سائر المخلوقات , قال سبحانه ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات ...), ورفع القلم عنه في بعض الأمور والحالات , احمده وسبحانه واشكره , وأتوب إليه واستغفره , واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمد عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا 0 أيها الإخوة المسلمون : اتقوا الله تعالى حق تقواه 0
عباد الله : من نظر في حال كثير من الناس اليوم يجد ما يلفت النظر ويبعث على الاستغراب , وفي الوقت نفسه يتساءل العقلاء لماذا هذا ؟ ترى شخصا يسير على نمط معين في هذه الحياة سواء في سلوكه وأخلاقه , أو في شكله ومظهره , أو حتى في عبادته وتدينه , وفجأة تراه في الاتجاه المعاكس 0 أضرب لذلك أمثلة يتضح بها المقال : شخص قد أطلق لحيته وقصر ثوبه , وعمد إلى حلقات القرآن وطلب العلم – وهذا حسن ولا عيب فيه , بل هو المطلوب من كل مسلم – ولكن تراه بعد فترة من الزمن وإذا به رجع القهقرى إلى الخلف تدريجيا شيئا فشيئا حتى أدى الأمر بالبعض إلى ترك الصلاة المكتوبة بالكلية والعياذ بالله , هذا مثال 0 مثال آخر : ترى شخصا قد حلق شعر وجهه – أي لحيته أو شاربه , وكذلك شعر رأسه - على شكل معين , وبعد فترة قصيرة لمدة أسبوع أو نحوه قد حلقها بالكلية , وبعد فترة أخرى وضع شعيرات على ذقنه وحلق الباقي ....... وهكذا في كل مرة شكل معين 0مثال آخر : ترى شخص يستقبلك بكل حب واحترام وتقدير مبتسما متهلل الوجه , وإذا بك تراه في موقف آخر عابس الوجه في وجهك مقطب الجبين يحاول الهروب من ملاقاتك , أو يكاد يتميز من الغيظ 0 هذا التذبذب في الشخصية وعدم الثبات على وتيرة واحدة له أسباب ومغذيات وليست العبرة في من قصر به العقل أو كان ممن لا عقل له , ولكنه يوجد عند كثير ممن يُضن فيهم التعقل بل وربما كانوا ممن يتولون مناصب في المجتمع جيدة ومرموقة , نعم إذا كان هذا التغير في سبيل التطور , والرقي من الأدنى إلى الأعلى , ومن الحسن إلى الأحسن , ومن السلبية إلى الايجابية عموما , أما وقد كان إلى الانحدار والى مالا يصلح , فهذا الذي يحتاج فعلا إلى تبصير وتنبيه , ووقفة صدق صائبة مع النفس ومع الغير , حتى لا يُسقِـط الإنسان نفسه بنفسه أمام الآخرين وهو لا يشعر 0
أيها الإخوة : ما الذي يجعل هذه الفئة بهذه المثابة من التذبذب وعدم الاستقلالية حتى كانت ظاهر أو كادت ؟ في الحقيقة أن الإجابة على هذا التساؤل ليس على عمومه , فان كل حالة تحتاج إلى إجابة خاصة 0 فالشخص الذي تدين واستقام على شرع الله قبل أن كان كسائر جنسه ممن هم على شاكلته , ومكث على التدين برهة من الزمن ثم عاد إلى ما كان عليه من الجهل , وترك الاستقامة , وترك الصلاة , يعود السبب الأول إلى أن هذا النوع من الناس قد اعتراه شيء أفسد عليه مساره الصحيح , وأعظم هذه الأشياء ما حدث من آفات القلوب من الكبر, والامتنان على الله , واحتقار الناس , والحسد , ورداءة الطبع وغيرها 0 ومن هذه الأشياء :التمسك بالدين على جهل فأخلد إلى الدعة والاكتفاء بصلاح الظاهر, وسماع أشرطة الوعظ والإرشاد فقط , وقراءة الكتيبات المختصرة, وترك طلب العلم التأصيلي با لوسائل الصحيحة0 ومنها : الانخراط في مجال الدعوة إلى الله وإنكار المنكرات في أيامه الأولى من استقامته دون أن يتحصن بالعلم والمعرفة بأساسيات الدعوة التي منها : معرفة الشيء هل هو منكر قبل إنكاره أم لا ؟ ما أدى ذلك إلى ردة الفعل عند هذا وأمثاله حينما تصادم بالجهل العميق الذي يحويه بين جنبيه وقد كان قبل ذلك يظن بنفسه الظن الحسن 0 ومنها استبطاء الطريق , واستثقال الحمل , والتوحش من قلة السالكين , والشعور بالغربة 0 أسباب أخرى غير ما سمعتم لعلها لا تخفى على العقلاء 0 وأما التذبذب في الأمور التي سبق ذكر أمثلة لها فأسبابها الرئيسية - والعلم عند الله : التقليد الأعمى لما يرون عبر وسائل الإعلام لرموز الكفر , والفن , والطرب , والتمثيل , والألعاب الرياضية وغيرها مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبر بشبر وذراعا بذراع , حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) 0رواه البخاري أضف إلى ذلك قلة الحياء أو انعدامه عند هؤلاء , وكذلك من الأسباب سكوت الصالحين دون إنكار وكأن الأمر لم يكن , أضف إلى ذلك من الأسباب : حب الشهرة , والتمرد على المألوف وعادات المجتمع ليتحدث الناس عنه في المجالس
أيها الإخوة : يؤدي هذا التذبذب في النهاية إلى نتائج سلبية سيئة لعلنا نتعرف على شيء منها في الخطبة التالية بإذن الله 0
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين 0
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا , والشكر له شكرا مديدا , وأشهد أن لا اله ألا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا 0
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله , واستمسكوا من دينكم الإسلام بعروته الوثقى ومنتهاه , ألا وهي لا إله إلا الله 0
عباد الله : عدم الثبات والتذبذب في الشخصية : دليل على خفة العقل والطيش , وان صاحبه في مهب الرياح سيتأثر بكل ناعق , وينجرف في وحل الردى والمهالك , سيكون قدوة في الشر يبوء بإثمه وإثم من سار على نهجه , سيتلهف ويلهث وراء الجديد , فلا هو شبع من الماضي ولا نال اللاحق - مذبذب بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء – كلما حاول اللحاق وإذا بالركب قد سار وتركه , ولئن قيل أن هذا الصنيع سيؤدي في نهاية المطاف إلى الجنون وانفصام الشخصية فإن ذلك ليس ببعيد 0
أيها الإخوة المسلمون : لا يُصلح الناس إلا شرع الله : العلم به , والتمسك فيه , والتحاكم إليه , ورد ما يشكل من أمور الدين إلى حملته فهم الذين أمر الله برد الأمور التي لم يتبين لنا الحكم فيها إليهم , قال تعالى ( ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) 0 تبقى علينا سويا – أيها الإخوة – مسؤولية كبرى تجاه هؤلاء , يا من عافاكم الله ! يا محبي الخير لهم وللغير ! أين دوركم؟ والأسئلة مطروحة على المتكلم قبل السامع , ما منا من احد إلا وهو يعرف أحدا ممن ابتلي بهذا الداء – داء التذبذب في الشخصية وعدم الثبات - وموقف الكثير منا موقف المتفرج , أو الناقم , أو الشانئ , أو المغتاب والشامت . ليس هذا هو الحل يا من تريدون نفع العباد ورد الناس إلى جادة الصواب , أن الحل في حث الخطى سراعا لمناصحة هؤلاء لا مناطحتهم , وهدايتهم عبر الوسائل المشروعة لا الممنوعة , والشفقة عليهم من مغبة ما يفعلون 0 والله جل وعلا جعل الخيرية في هذه الأمة إذا هي حققت شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه المعروفة , فهذه المسألة من غرائب الشريعة فيلا يتحقق الشر الا بشروط قال الله تعال : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) 0
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رحيم يا رحمن ........ الخ |